العباس (ع) .. البصير والثبات
جدول المحتويات
العباس (ع)..
البصيرة والثبات
قال الإمام الصادق : «كان عمُّنا العباس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله ، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً». ([1])
الكثير من الناس قد .. يدرك «الحق» وأهل الحق، ويدرك الباطل وأهله، لكنهم لايقفون مع الأول ضد الثاني، فما فائدة هذه البصيرة؟!
تمهيد
إنّ الانسان يتكون من جزئين: روحٌ وجسدٌ، ولكلٍ منهما متطلباته، وعظمةُ الإنسان وشخصيته «بروحه» وهناك أمورٌ تزيد من عظمة الانسان، وهناك ماينزله إلى الحضيض الآسن، ولابدّ من التعرف على كلٍّ من الأمرين حتى يتحلّى بـ «صفات وعوامل الكمال» ويحذر ويتجنب «عوامل الانحطاط»، ومن أهمّ عوامل الكمال «البصيرة» و«الثبات»، ثبات القدم والايمان .
وكما يُعبّر علماءُ الأخلاق والعرفان: أنّ «البصيرة» ترجع إلى قوة الإنسان النظرية وإدراك الأمور كما هي. و«الثبات» ترجع إلى قوة الانسان العملية والإقدام على الأمور بحقانيتها، وتجنّبِ مايلزم أن يتجنبه. وسوف نستعرض هذين العاملين الأساسيين، وبذلك سوف نتعرف على كثير من الكمالات الاخرى.
أولاً: البصيرة
إدراك الامور والعلم بها مطابِقةً للواقع
إننا عندما نلاحظ «الأشياء» من حولنا فإننا نجد: شمساً وقمراً وأرضاً وشجراً….. وغيرها من المحسوسات، وكذلك نُدرك في وجداننا جوعاً وعطشاً وحباً وبغضاً …… إلخ، فهذه «أمورٌ واقعية» متحققه في نفس الأمر، والإنسان إتجاهها على نحوين:
فتارةً يُدرك الإنسان هذة الامور كما هي متحققة، فلا يشتبه عليه تصور هذه الواقعيات، فالشمسُ يدركها شمساً والقمرُ قمراً وهكذا..
وتارةً لايُدرك الإنسان هذه الأمور كما هي متحققة، فيرى الأصفر أحمرَ، والكبيرَ صغيراً والطويل قصيراً …وهكذا!
والسرّ في أن النوع الأول من النّاس يُدركون والنوع الثاني يشتبهون ويخطؤون هو:
أنّ النوع الأول سليمُ الحواس، ولايوجد عنده موانع، سليمُ العقل … وغيرها من العوامل التي يمتلكها مما تمكّنَه من إدراك الأشياء كما هي.
وأمّا النوع الثاني فهو ضعيف البصر أو يوجد بينه وبين الواقع موانع، أو يوجد في عقله أو ذهنه خلل … أو غير ذلك من العوامل المانعة من إدراك الواقعيات الخارجية.
إدراك الحقائق والمواقف
كذلك الحال يجري في مجال إدراك الحقائق والمواقف؛ فصنفٌ من الناس له القدرةُ على إدراك المواقف المحقة والحقائق والافكار الصائبة، وصنفٌ آخر من الناس ليست له القدرة على ذلك!!
فـ «الصنف الأول» يُدرك أن العدل حسنٌ والظلم قبيحٌ، ويُدرك أن «الإسلام» به سعادة الدنيا والآخرة، وأنّ الكُفر سبب لشقاء الدارين.
وأمّا «الصنف الثاني» فهو لايدرك مثل هذه الأمور، بل قد يُدرك الحقائق والأفكار على عكس ذلك فيرى أنَّ ظلم الناس قوة وفضيلة، والإعتداء عليهم «شجاعة وشهامة» والتكبر على الناس قوة شخصية بل تواضعاً …وهكذا!!
معرفة الحق والباطل، تحتاج إلى بصيرة، وهي نعمة لصاحبها.
عوامل وأسباب قوة البصيرة وضعفها
توجد عوامل كثيرة لقوة «البصيرة» وإدراك الأمور كما هي، وفي القبال هناك أمورٌ تكون سببا لـ «ضعف البصيرة» او لإنعدامها بالكامل! نذكر في المقام بعضا منها:
العامل الخارجي: ونعني بذلك أنّ الإنسان يتشكل ويتلون من خلال ما يحصلة من علوم ومعارف، حيث تتشكل بذلك شخصيته.
فإذا كانت «منابع فكره» والموازين التي يُدرك بها الأشياء ويُقيّم بها الأفكار والمواقف كانت هذه المنابع صافيةٌ ومحكمةٌ، وكان شرابها طهوراً، فإن من يشرب منها ومن ينهل من فيضها، سيحصل على بصيرة قوية.
وأمّا من يستقي الأفكار والعلوم والموازين من المدارس المنحرفة، أو «السطحية الهشة» القشرية، فإن نتائج ذلك؛ هو خواءُ الفكر وضعف البصيرة، بل وانعدامها وانقلاب الفكر!! وكما في الحديث في تفسير قوله تعالى ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِه﴾([1]) أي فلينظر إلى علمه من أين ياخذه!! ([2])
العامل الداخلي: ونعني بذلك «روحيّة» و«نفسية» المتلقي للعلوم ومستوى الإدراك والتعقل؛ فالناس تتفاوت في الطِّباع وفي الاستعدادات، وهذا التفاوت له الأثر الكبيرُ في تلقّي المعارف وإدراك الأمور:
فصاحب النباهة والذكاء والفطنة :عنده قدرةٌ على إدراك مالايقدر على إدراكه بليد الفكر أو صاحب الذهن العادي.
وصاحب القلب السليم والروح الطاهرة الزاكية له القدرة على إدراك الحقائق وتشخيص المواقف مالايدركة ولايبصره صاحب القلب المظلم بالذنوب والمعاصي فـ «الْعِلْمُ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ».([3])
و البصيرةُ وإدراك الحقائق نعمةٌ يمن الله بها على أصحاب القلوب الطاهرة النقية التي تعيش مع ربها وهي دائمة الاتصال به!!
البصيرةُ وإدراك الحقائق نعمةٌ يمن الله بها على أصحاب القلوب الطاهرة النقية التي تعيش مع ربها وهي دائمة الاتصال به.
ثانيا: الثبات
قيمة الإنسان بالإرادة والثبات على المبادئ والحق
ان القدرة على معرفة «الحق» و«الباطل» تحتاج إلى بصيرة، وهي نعمةٌ لصاحبها، ولكنّ ذلك ليس بآخر المطاف، ولا منتهى الكمال؛ فبعد «المعرفة» لابدّ أن يعقب ذلك «العمل» و«الإقدام»، وترجمة ما نعلم إلى عمل! والأهم بعد ذلك هو الثبات على العمل ف «الثبات» والاستمرار على العمل أشد من العمل، والنتائج لاتترتب غالباً إلا على الثبات والإستمرار لا على الاتيان بأصل العمل فحسب!
وهناك الكثير من الناس قد يدرك «الحق» وأهل الحق، ويدرك الباطل وأهله، لكنهم لايقفون مع الأول ضد الثاني، فما فائدة هذه البصيرة؟!
وقد يقف مع اهل «الحق» فترة من الزمن، ولكنه يضعُف ولا يواصل على ذلك، ويتخلى عن جبهة أهل الحق والوقوف معها، فلا يكون عنده «الثبات» في ذلك!!
عوامل تقوية الثبات والارادة
إنّ من أهمّ الأمور لأجل أن يُصبحَ الإنسان صاحب «عزمٍ وإرادةٍ وثبات» هو أن:
يتجرد من الأهواء النفسانية ولا يصبح عبداً للشهوات والنزوات، فإنّ هذه الأمور تضعف الإنسان عن الإقدام على المواقف الحقة.
أن لايداهن الباطل ويذوب في مشاريعه؛ لأن هذا الأمر سيجرُّه إلى الشلل النفسي وخواء العزم والارادة بشكل تدريجي.
أن يصبر على الحقّ ويتحمل تباعته وتبعات الثبات علية، ويحتاج في ذلك أن يعوِّدَ نفسة على تحمل البلاءات والكُربات إن حلت .
أن يـــتــــذكر أنّه مسؤولٌ عــــن أي موقف يــــتخده أمام الله تعالى ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾([1]) فاستحضار وجود الله تعالى ومراقبته أمر مهم.
أن يعيش الإسلام والإيمان في عمقه ووجدانه، ويذوب في مبادئ السماء حتى يُصبح إنساناً ربّانياً علماً وعملاً، ظاهراً وباطناً، مُهيَئاً للمواقف، ثابتاً على الحق.
نصـرةِ الإسلامِ بالوقوفِ مَعِ إمَامِهِ والذّودِ عَنهُ حتّى المَوتِ!
عاشوراء مدرسة البصيرة والثبات
في عاشواء هناك من كانت عنده بصيرةٌ، وكان يملك الثبات، وهناك من فقد الثبات مع وجود البصيرة، وهناك من انعدم الأمران فيه معاً فلا بصيرة ولا ثبات:
فـ «معسكر الإمام الحسين » كان الأنصار والأصحاب، أصحاب «بصيرة» بالموقف وهو نصرة الإسلام، وابن بنت رسول الله إمامهم وإمام الانس والجان، قد أبصروا بأنّ «يزيد» فاسد ومفسد، وأن آلَ أُميّة شجرةٌ ملعونةٌ ولابدّ من عدم الرضوخ لها واقتلاعها، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية: كانوا أصحاب «ثبات»… وهذا ما بلوروه في يوم عاشوراء؛ فلا توجد لغةٌ تُترجِم ذلك بشكل واضح أفضل وأزكى من لغةُ الدّمِ والفِداء، والذهاب للموت نصراً للإسلام والإمام وأهل بيتة!!
وأمّا «مُعسكر يزيد وابن سعد» فكانوا لايملكون «بصيرة» الموقف وكانت الرؤيةُ عند الكثير مشوشة أو مقلوبة، فهذا يقول «صلّ إن نفعتك الصلاة»! وذلك يقول «لاتذوق الماء حتى ترد النار»! وثالث يقول «نقاتلك بغضاً لأبيك» وآخر يقول: «كفرت كما كفر أبوك من قبل»! وذلك يتقرب إلى الله تعالى بدم الإمام الحسين !!
ولم يكونوا أصحاب «ثبات القدم»؛ فكان الكثير من هذا المعسكر يعرف أن الحق مع الإمام الحسين ؛ فـ «قلوبهم معه»، ولكن «سيوفهم عليه»! وهذا يبكي وهو يسلب بنات الرسالة، وذلك يطّل على المعركة – وهو يبكي – ولا ينزل لنصرة إبن بنت رسول لله … وذاك وذاك!!
نعم سيطر الشكل النفسي، وضعفت الإرادة عن الوقوف مع الحق، وكانت عاقبتهم الخزي في الدنيا، وعذاب الحريق في الاخرة!!
العَبّاسُ بَطَلُ البَصِيرَةِ والثّباتِ
إِنَّ أبرزَ مُميزَاتِ وصفاتِ وكمالاتِ العبّاسِ بِن عَليٍّ هُو اِمتِلاكُهُ لهَاتَينِ الخِصلَتَينِ:
فَقَد كانَ صاحبَ بصيرةٍ «نافذةٍ» أَدرَكَ بِها الحقَّ وأَهلَهُ، وعَرَفَ تَكلِيفَهُ وشَخَّصَ مَايَنبغِي لَهُ أَن يَفعَلَهُ! بأداءِ فَرضِ ربِّهِ بجهادِ عدوّهِ، ونصرةِ الإسلامِ بالوقوفِ مَعِ إمَامِهِ والذّودِ عَنهُ حتّى المَوتِ !
ووهُوَ صاحبُ «ثباتِ القدمِ» الّذِي لايَتَذَبذَبُ ولا يَتَزَلزَلُ، فعندَمَا عَرَفَ الموقفَ الحقّ ثبتَ عَليهِ ولَم يَنثَني عَنهُ، وعِندَمَا عَرَفَ إِمامَ الحقّ وتكليفَهُ مَعَهُ ذادَ عَنهُ بأغَلى مَالَديهِ…. بِنَفسِهِ الّتِي بَينَ جَنبَيهِ !
_________
المصادر
- [1]. مقتل الحسين لأبي مخنف: 176.
- [2]. عبس: 24.
- [3]. فقد روى الشيخ الكليني (قدس سره) في الكافي : عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ» قَالَ: قُلْتُ: مَا طَعَامُهُ؟ قَالَ: «عِلْمُهُ الَّذِي يَأْخُذُهُ، عَمَّنْ يَأْخُذُهُ؟» كافي (ط – دار الحديث)، ج1، ص: 123.
- [4]. مصباح الشريعة، ص: 16.
- [5]. الصافات: 24.
سلسلة محاضرات “التغيير في سبيل الله”
محاضرة القاها سماحة الشيخ زهير عاشور في سجن جو المركزي (7 محرم 1436 هـ)