حق الحاكمية والتشريع وفق الرؤية الإلحادية
تمهيد
بعد أن استعرضنا رأي أصحاب الرؤية الكونية التوحيدية في مسألتي حق الحاكمية وحق التشريع، يأتي الحديث الآن لبيان رأي أصحاب «الرؤية الكونية الإلحادية» المتمثلة في الغرب ومن شايعهم وسار خلفهم وتبنّى نظرياتهم وأطروحاتهم.
فنذكر أولاً ما يتبنونه من طرح وما يصلح دليلاً على مدّعاهم، ومن ثم نتعرض لمناقشتهم من خلال هدم الأسس التي يعتمدون عليها، وتقويض ما يبنون عليه.
الرؤية الكونية الإلحادية
إنّ الغرب إمّا أنه لا يُؤمن بوجود الله؟عز؟ من الأساس، أو أنّه لا يرى لوجوده سبحانه أي أثر على صعيد الحياة الدنيا وعالم السياسة؛ فهم يعتقدون بأنّه لا محوريّة إلا للإنسان ولا مرجع إلا الإنسان «هيومونايزم»، فالله تعالى – بتصورهم – ليس له دخل في حياة الإنسان: لا من جهة الحاكمية ولا من جهة التشريع!
فالإنسان مالكٌ لنفسه ولكل شؤون حياته، وله الحقّ في التصرف بالأمور التي تقع تحت ملكه، وهو حرٌّ في تصرفاته، لا يمنعه أحدٌ ولايقف في وجه تمتعاته أي كائن! فله «حق المالكية» المطلق!
والإنسان هو صاحب الحق الأصيل في التّشريع وإصدار القوانين وهو غير مُلزمٍ بتشريع أحد، بل هو ملزم بالتشريعات الصادرة منه أو التشريعات التي صدرت من الجهات والأشخاص الذين أعطاهم وخوّلهم منصب التشريع، فالإنسان له «حق التشريع» المطلق.
والحاصل أنّ الرؤية الغربية ترى محورية الإنسان بدلاً من محورية الله؟عز؟ على صعيد الحاكمية والتشريع، فالإنسان هو صاحب الحقّ الأصيل، وهو يعطي هذا الحق لأي شخص أو جهة يريد.
محورية الإنسان
إنّ الطرح الغربي المبتني على «محورية الإنسان» لا نجد له أساساً عملياً وفكرياً، فواقع الإنسان وحقيقة وجوده لن تتغير بمثل هذه الأطروحات الغربية.
فهل الإنسان هو الذي أوجد نفسه من العدم فيكون خالقاً؟! وهل الإنسان بعد أن وُجِد في الكون صار وجوداً مستقلاً؟ وهل أصبح الإنسان مستغنياً عن علته وخالقه فيكون غنياً؟
والجواب عن ذلك كله: إنّ الإنسان كان عدماً فأخرجه الله تعالى من كتم العدم ليصير موجوداً، فهو محتاج في أصل وجوده وتحقّقه لله.
وبعد وجود الإنسان فإنّ حاجته إلى خالقه ما زالت مستمرة؛ فالمعلول يحتاج إلى علّته حدوثاً وبقاءاً، في أصل وجوده وفي كمالاته.
محورية الله أو محورية الإنسان؟!
فإذا كان الإنسان مخلوقاً لله تعالى، وهو مُحتاج إليه في بداية وجوده وفي استمرار بقائه، وهو في كل آنٍ يحتاج إلى الله تعالى.
فالسؤال: من هو الأعرف بصلاح الإنسان ومايفسده؟ ومن أولى بوضع القوانين للإنسان من أجل تحقيق السعادة له؟ هل هو الإنسان أو خالق الإنسان؟
والجواب: إنّه من الواضح أن خالق الشيء وصانعه هو أعلم بمخلوقاته وتركيب أجزائه، وهو أعلم بما ينفعه مما يضرّه.
فمثلاً: إنّ الشخص الذي صنع الهاتف هو الأقدر من غيره على بيان كيفية الاستفادة الصحيحة منه، وهو الأقدر على بيان الأمور الخطرة والمضرّة لهذا الجهاز.
وهكذا يجري الأمر بالنسبة للإنسان؛ فالله تعالى الذي خلق الإنسان والكون هو الأقدر على جعل القوانين للإنسان، فهو الخالق للإنسان والعالِم بما ينفعه وبما يضره في دنياه وآخرته.
- فالله هو الذي خلق الإنسان، فهو الأعلم بحقيقته وتركيبه وكل شؤونه.
- والله هو الذي خلق الكون الذي يعيش فيه الإنسان.
- والله هو العالم بالعلاقة بين الإنسان والكون.
فالذي خلق الإنسان هو العالِم بما يصلحه وما يضرّه، والذي خلق الكون، والذي يعلم بعلاقة الإنسان والكون، هو الوحيد القادر على وضع قوانين تنفع الإنسان في حياته الدنيا.
أمّا الإنسان الذي يجهل بحقيقة ذاته، فهو غير مُؤهل لأن يكون هو المحور والمرجع في وضع القوانين؛ فإذا كان علماء الطب مثلاً يعترفون اليوم بعجزهم عن معرفة الإنسان – والحال أنّهم يتكلمون عن الأجزاء العضوية المادية فقط – فكيف لهم أن يضعوا له قوانيناً تصلحه ولا تُفسده، وهم لا يعرفونه حقّ المعرفة!
والإنسان، روح وجسد، والبشريّة للآن تعجز عن معرفة كل أسرار الجسد، فكيف حالها مع الروح والذي تكون إنسانية الإنسان بها، فكيف للمقنّن الجاهل بروح الإنسان أن يضع قانونا للإنسان وللبشرية؟!
والحياة الدنيا التي يعيش فيها الإنسان ما زالت غامضة له، لا يعرف للآن الروابط الواقعية والحقيقية بينه وبينها، فكيف نسمح للإنسان – صاحب الفكر المحدود والقاصر – بأن يُقنّن ويشرّع لأمورٍ لا يعلم بها؟!
والحياة الآخرة، لها حديثٌ آخر؛ فمع الإيمان برحيلنا عن عالم الدنيا إلى عالم الآخرة؛ فما هي الأمور التي تُصلِح حياتنا الآخرة؟!
وما هي العلاقة بين الدارين والحياتين؟ ومن هو القادر على بيان هذه العلاقة؟ ومن الذي له حقّ وضع القوانين التي لا بُد للإنسان أن يعمل بها في الحياة الدنيا من أجل أن تصلح له الحياة الآخرة؟!
كلُّ هذه الأسئلة وغيرها، لا نجد لها جواباً بناءاً على «محورية الإنسان» وأما مع الإيمان «بمحورية الله» فالجواب:
إنّه الله.