الدولة الدينية والدولة المدنية
جدول المحتويات
تمهيد
إنّ الحديث اليوم عن الدولة المدنية أصبح لازماً وضرورياً؛ وذلك لأنّه الخيار الذي تسعى له كثيرٌ من الشعوب وتنادي به قياداتها، وتفتخرُ بها الدول التي أسست على مبادئها وقامت على أركانها.
فلا بد لنا أن نتعرّف أولا على حقيقة الدولة المدنية والمبادئ والأركان التي تقوم عليها، قبل أن ننادي بها ونطالب بإقامتها.
ومن ثم سنقيّمها طبقاً للرؤية الكونية التوحيدية لنرى مدى انسجامها – كأطروحة – مع المبادئ القيم والأفكار التي نؤمن بها.
لنجد في نهاية البحث أنّ أطروحة الدولة المدنية تتعارض وتتباين مع أطروحة الدولة الدينية ولا تنسجم مع الطرح التوحيدي.
أركان الدولة المدنية
إنّ الدولة المدنية كأطروحة سياسية ومشروع دولة يراد لها التحقق خارجاً تتكون من مجموعة من الأركان والمبادئ، منها:
أولاً: العلمانية، وفصل الدين عن السياسة.
ثانياً: محورية الإنسان بدلاً من محورية الله.
ثالثاً: النسبية في المعرفة وفي العمل.
وسوف نقوم بعرض هذه الأركان ونشرحها تِباعاً، ونذكر بعد ذلك المناقشات العلمية التي ترد عليها ونبيّن الأطروحة الحقّة في المقام.
ومن ثم نعقِّب بذكر أبحاث لها ربط بهذه الأطروحة، منها: التعددية والديمقراطية والحرية والليبرالية إن شاء الله تعالى.
أولاً: العلمانية
الجذور التاريخية للعلمانية
شهدت أوروبا في القرون الوسطى حقبة تعتبر من أسوء وأظلم فترة تمر على المجتمع الأوروبي، حيث كانت «الكنيسة الكاثوليكية» تحكم الناس باعتبار أنّها المخوّلة من قبل الرّب على ذلك، فكانت تحكم المجتمع الأوروبي باسم الدين ومن خلال قوانين وتعاليم الأنجيل.
وكانت «الكنيسة الكاثوليكية» ترفض أي «أطروحة علمية» تتعارض مع الأطروحات الدينية المسيحية، فنشب الخلاف أولاً بين الدين والعلم، والذي تطوّر لاحقاً بالقول بالفصل بين الدين والعلم.
وفي هذا الوقت كان التحالف بين الكنيسة وقيصر، فكانوا يحكمون العباد والبلاد بثنائية: دينية وسلطوية، وهكذا عاش الناس في الفقر والجهل وضيق الحياة.
حتّى أخذت بوادر الثورة على هذا الواقع المرير وبدأ زمن النهضة والخروج من ظلمات القرون الوسطى، فبرزت بعض الأصوات من داخل «الكنيسة الكاثوليكية» والتي تدعوا إلى «الإصلاح الدّيني»، وكان في مقدمتهم «مارتن لوثر» الذي أصرّ على التغيير وعدم قبول أطروحات «الكاثوليكية» فطرح البديل من خلال «البروتستانتية»، ومما دعى إليه: فصل الدّين عن السياسة.
فصل الدّين عن السياسة
لقد وجد بعض علماء المسيحية: أنّ الاستمرار في هيمنة المسيحية وحكومتها للمجتمع الأوروبي سوف يؤدي إلى الثورة التي ستؤدي إلى زوال المسيحية، كما سوف يزيل ملك قيصر.
فأوجدوا الحل – بتصورهم -: بأن يجعلوا دائرة «الدين» مغايرة لدائرة «السياسة»، وعندها فسوف لن يقع الصدام بين الدين والسياسة؛ لأنّ الصدام بين أمرين لا يقع إلا مع الإشتراك في محيط العمل والمسار الواحد، أمّا إذا فرضنا أنّ للدين دائرةً ومساراً يغاير ويباين دائرة ومسار السياسة، فعندها لن يقع الصّدام بينهما، وبذلك نتجنب ثورة الناس ضد الدين، فيبقى الدين محفوظاً بين الناس!
فقالوا: إنّ دائرة «الدين» هي الحياة الفردية، ودائرة «السياسة» هي الحياة الاجتماعية؛ فكل ما هو فردي فنرجع فيه إلى الدين، وكل ما يرتبط بالحياة الاجتماعية فالمرجع فيه إلى السياسية، أي نرجع إلى النّاس في تحديدها وبيان حلّ معضلاتها!
دواعي القول بالعلمانية
والمسألة المهمة التي لا بد من ذكرها وعدم الغفلة عنها: هو بيان الدّواعي التي جعلتهم ينادون بالعلمانية وفصل الدين عن السياسة.
والحاصل:
أولاً: إنّ التعاليم المسيحية، بما فيها الإنجيل الذي بين أيديهم، هي مُحرّفة غير مصونه من تلاعب البشر، فما بأيديهم ليست هي التعاليم التي نزلت من السماء على النبي عيسى (ع).
وثانياً: إنّ هذه التعاليم لا تحتوي القدر الكافي من القوانين التي تصلح لإدارة الدولة وجعل الناس يعيشون بسعادة، فكيف تحكم «الكنيسة» النّاس وهي ناقصة في القوانين؟! أو أنّ القوانين لا يمكن أن تُطبّق ولا تنسجم مع حياة الناس!!
العلمانية والديمقراطية
وبعد أن وصل أصحاب الفكر العلماني إلى القول بفصل الدين عن السياسة، وأنّ المرجعية في الأمور الاجتماعية إلى الناس لا إلى الدين، عندها تم مواجهة هذه الإشكالية وهي:
كيف سيكون الحكم على الناس؟
هل بأن يتسلط شخصٌ قوي أو جهة قوية، فتكون «الديكتاتورية».
أو أنّ المرجع هو الناس وأصوات الناس الغالبة فتكون «الديمقراطية».
والجواب الذي قبلوه وتبنّوه أن رفضوا النظام الديكتاتوري ودافعوا وأيدّوا النظام الديمقراطي وهو يعني حاكمية الشعب في أمور حياتهم وبيان مصيرهم.
البروتستانتية الإسلامية
وبهذا المسار التاريخي الذي وقع في المجتمع الأوروبي، وبهذه الملاحظات والإشكالات الحقّة على الدين المسيحي وحاكمية «الكنيسة الكاثوليكية» والآثار الإيجابية التي ترتّبت على قيام «الكنيسة البروتستانتية» وحصول النّهضة والتقدم في المجتمع الأوروبي لأجل ذلك كله، لا بُدّ من إيجاد تجديد داخل «الإسلام» – بروتستانتية إسلامية – من أجل تقدم المجتمع الإسلامي وإخراجه من التّخلف الذي يعيش فيه!
ويضيفوا ولأجل حفظ الدين «الإسلام» في قلوب الناس لا بُدّ من عزله عن شؤون الناس ، فالدين دائرته الحياة الفردية وأمّا الحياة الاجتماعية فالدين لا دخل له فيها!
ولأجل حفظ مكانة العلماء لا بُدّ أن لا يتدخّلوا في السياسة حتى لا يتعرّضوا للإنتقاد والتسقيط وتقل مكانتهم في قلوب الناس!
ولأنّ السياسة فيها نجاسة ومكر وخديعة فلا بُدّ أن لا يدخل العلماء فيها؛ لأنّهم يمتلكون القداسة والطهارة!
والحاصل أنّه لا بُدّ أن يتم الفصل بين ما هو مُقدّس وهو الدّين عمّا هو ليس بمقدس وهو السياسة.
نقد العلمانية
لا يمكن فصل الدين عن السياسة في الإسلام
إنّ الذي يطلّع على تعاليم الدين الإسلامي، ويمرُّ على كل تشريعاته من باب الطهارة إلى باب الحدود والديّات، ويتأمّل في تفاصيل الفروع فضلاً عن الوقوف على الأصول، فإنّه يستحيل له أن يتصور إمكانية فصل الدين عن السياسة، وكما يقول الشهيد آية الله مدرس:«ديننا عين سياستنا وسياستنا عين ديننا».
فكما أن الإسلام له قوانينه في الحياة الفردية وبيان الحلال والحرام فيها، فإنّ له قوانينه في الحياة الأسريّة والحياة الاجتماعية والحياة السياسية والاقتصادية و…إلخ، بل إنّه يُمكن القول: بأنّ الإسلام هو دين الدولة والقوانين الحياتية والاجتماعية.
والحاصل أنّه إذا أمكن تصور النقصان والقصور في تعاليم المسيحية اتجاه القوانين الاجتماعية، فهذا لايمكن تصوّره في تعاليم الإسلام لما فيها من الجامعية والشمول والخلود.
العبودية لله في كل شؤون الحياة
والقولبأن الدين هو خاص بالحياة الفردية، وأن لا مرجعية للدين في الحياة الاجتماعية، هو في معنى القول: بأنّ الإنسان يكون عبداً لله تعالى في حياته الفردية فقط، وأمّا في حياته الاجتماعية والسياسية فهو عبد هواه وعبد نفسه!
والصحيح أنّ الإنسان عبدٌ في جميع شؤون حياته، الفردية والاجتماعية، وهو مطالب بإطاعة مولاه في كل الحالات، ولا يحقّ له أن يعصيه في أيّ دائرة من دوائر الحياة، وإنّ الارتماء في «الديمقراطية» وحاكمية الشعب في شؤون الحياة، هو في الواقع من أشكال «الشرك في العبودية» الذي أفرزته هذه القرون الأخيرة.
حتى تطوّر الحال إلى إزاحة الله؟عز؟ وإحلال الإنسان محلّه، وبعد أن كان الله تعالى هو المحور في الحكم والتشريع، أصبح الإنسان هو المحور فيها!
لا تعارض بين الدين والسياسة
والإسلام لا يمكن أن نجد فيه حكماً قطعياً يتقاطع مع العقل، فلا يُمكن أن نظفر بحكمٍ ديني يخالف المسلّمات العقلية والأحكام القطعية. والدين الإسلامي يعتبر الدّين المتميز في الدعوة إلى العلم والعقل والبحث والاستكشاف و…، فهو دين الحياة الذي يشعّ بأحكامه على كل مفاصيل الحياة بما يُسعد البشرية ويوصلها إلى الكمال.
دواعي العلمانية منتفية عن الإسلام
والدواعي التي ذٌكرت للعلمانية في المحيط المسيحي من تحريف في تعاليم المسيحية، ومن نقصٍ وقصورٍ في قوانين المسيحية تجاه قوانين الحياة، أو عدم الانسجام بين الأحكام وواقع الحياة لا نجد لها واقعاً في المحيط والدين الإسلامي.
فالإسلام:
أولاً: لم يقع فيه التحريف، وقد توعد الله تعالى بحفظ القرآن وبحفظ شريعته من خلال الأئمة (عليهم السلام) والفقهاء، فالإسلام ما زال على ما كان عليه حال النزول: في أصول الاعتقاد وضروريات الأحكام وأساسيات مسائل الحلال والحرام، والاختلاف الاجتهادي في بعض الفروع والمسائل لا يضرُّ به ولا يجعله ديناً مُحرّفاً.
ثانياً: إنّ الإسلام واسعٌ في تشريعاته عامٌ شاملٌ في قوانينه، وهو له حكم في كل واقعة من وقائع الحياة، فلا نقص ولا قصور في أحكام الإسلام حتى يُبحث عن البديل.
ثالثاً: إنّ الإسلام يعتبر دين الفطرة، فكلُّ أحكامه تنسجم مع العقل والفطرة، وكل تشريعاته تتلاءم مع واقع الحياة؛ فالذي خلق الإنسان وخلق الكون وأوجد العلاقة بينهما هو نفسه الذي أنزل القوانين والتشريعات وهو الله تعالى، فكيف لا يكون هناك تناغم وانسجام بين عالم التشريع وعالم التكوين.
والنتيجة أنّ مقايسة الإسلام بالمسيحية وجرُّ الملاحظات الواردة على المسيحية على الإسلام، ومن ثم الدعوة للعلمانية في المحيط الإسلامي هو قياس خاطئ وحكمٌ غير مُنصف.
وهم البروتيستانية الإسلامية
والذين لم يعوا الإسلام بعمق ولم يتبحّروا في مياهه، ولم يصلوا إلى لبابه، بل قرأوا الإسلام قراءة قشرية، وتعاطوا معه بمنهجية خاطئة ولم يعوا أصوله وفروعه، هؤلاء تجدهم يسعون لاستنساخ تجارب الآخرين وتطبيقها على واقعٍ لا يمكن أن تنطبق عليه!
وهذا لا يعني التحجر والانغلاق والتعصّب والدعوة لها، وإنّما نعني عدم القشرية والدخول في الأبحاث العلمية من غير رصدٍ علمي محكم.
فنحن ندعو للنقاش والبحث، ولكن بعد الإلمام بالقواعد العلمية المحكمة التي تُعين على سبر أغوار هذه المحيطات الواسعة من المعارف الإسلامية، والإجتهاد – في الأصول والفروع – هو الحصن المنيع لمثل هذه التجديدات والقراءات النقدية للتراث الإسلامي.
والحاصل أنّه إن أُريد التجديد في فهم الدين بما ينسجم مع متطلبات الحياة المعاصرة، فهو أمرٌ مقبول في دائرة الاجتهاد في فروع الدين وأصوله، وهو حاصلٌ لدى العلماء والفقهاء والفلاسفة، ولكن إن أُريد بالتجديد هو التبديل في الأحكام بأي نحو كان فهذا في الواقع رفضٌ للدين وإعراضٌ عنه، لا أنّه تجديدٌ فيه.
الإسلام بين النظرية والتطبيق
نعم، لا بُدّ من التفريق بين الإسلام بلحاظ ما يحمله من منظومة متكاملة تشمل كل مناحي الحياة، بما يكفل سعادة البشرية في الدنيا والآخرة، وبين واقع المسلمين المتخلّف، لا بسبب أحكام الإسلام بل بسبب ابتعاد المسلمين عن الأحكام الإسلامية.
وللأسف فإن الكثير يخلط بين الأمرين فيتصور أنّ تخلف المسلمين مرجعه إلى تخلف الإسلام وعدم صلوحه لأن يُطبّق في هذا الزمان والحال أنّ المشكلة في عدم التطبيق لا في أصل الأحكام الإسلامية.
وعليه فالذين ينادون بالتجديد في الدّين باعتبار أنّ أحكامه لا تصلح لهذا الزمان، وهو سبب تخلّف الأمة الإسلامية، ينبغي لهم الدعوة للثورة على واقع الأنظمة الظالمة وواقع الشعوب المبتعدة عن تطبيق الإسلام.
فإذا رجعت الأمّة إلى إسلامها وجعلته في واقع حياتها، فإنّها سترجع إلى الريادة وقيادة البشرية مرةً أخرى، وسيعرف النّاسُ عظمةَ الدين حينئذٍ وسيزداد رسوخاً في قلوبهم، وسيسعون لحفظه أكثر وأكثر، وأين هذا الطرح من الدعوة لإزاحة الدين من حياة الناس!
العلماء والعمل السياسي
وإذا كان الدين داخلاً في كلِّ شؤون الحياة، والنّاس مطالبون بتطبيق الدين في كلّ شؤونهم، فمن الواضح كيف تكون وظيفة العلماء العظيمة في العمل السياسي؛ فهم الأقدر على فهم الدّين وتطبيقه، وخدمة النّاس – التي هي من العبادات العظيمة – تُعتبر من أعظم المسؤوليات على علماء الدين.
والسياسة التي تعني النجاسة والكذب والخداع، لا نُؤمن بها ولا ندعو للاشتغال بها، وإنّما نعني بالسياسة:
تطبيق الدين في الحياة الإجتماعية، وهذا لا يكون إلا بملاحظة الأحكام الشرعية والدقة في تطبيقها.
وإذا كان تطبيق الإسلام والدّعوة له يسبب الانتقاد والتسقيط من قبل أعداء الدّين فهذا هو الجهاد الذي لا ينبغي التراجع عنه.
فهل ضرّ بقداسة النبي (ص) أن أقام الحكومة الإسلامية في المدينة، ومارس السياسة وقيادة الأمة؟!
وهل مُسّت شخصية الإمام علي (ع) المعنوية بسوء عندما جاءته الخلافة وقام بشؤون المسلمين وهم متسنِّم لأعلى المناصب الحكومية؟!
وهكذا هو نهج الأنبياء (عليهم السلام) الذين ذاقوا أشدّ المعانات من شعوبهم وأممهم، حتى عُذّبوا وقُتّلوا وشُرّدوا وأُهينوا!!
والعلماء يسيرون على هذا النهج، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، مادام ذلك يحقق رضا الله تعالى، ويجسّد الامتثال للتكليف الإلهي.
والحاصل أنّ السياسة التي نؤمن بها ما هي إلا أداة العبودية لله تعالى في الشؤون الإجتماعية، وبذلك تنصبغ السياسة عندنا بالقداسة والاحترام الكبير.