الحرّية
جدول المحتويات
تمهيد
تعتبر «الحريّة» من أكثر المفاهيم التي يُنادى بها في عالم الحقوق والسياسة والحياة الاجتماعية و…، ففي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تُذكر الحرية كأول الحقوق وأهمها، وفي التشريعات البرلمانية: تُلاحظ الأفراد في كل تقنينٍ وتشريع، وفي الأمور الإجرائية والتنفيذية: لا يمكن الغفلة أبداً عن أي تجاوز يضرّ بالحرية.
وهكذا نجد الحرية تدخل في كلّ شؤون الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية و…، وهي أحد أركان الدولة المدنية.
الليبرالية
والليبرالية: وهي الدعوة إلى الحرية المطلقة والاعتقاد بأنّ «الحرّية الفردية» هي الأساس في كل شيء، فالليبراليون هم المنادون اليوم بالحرية الفردية التي لا يقيّدها شيء:
- فالإنسان حرٌ في كل ما يريد أن يأكل ويشرب!
- والإنسان حرٌ في كل ما يريد أن يلبس ويعتقد!
- والإنسان حرٌ في كل ما يريد أن يقول ويفعل!
والحاصل أنّ الليبراليين هم القائلون بالحرية الفردية وأنّ مصلحة الفرد مقدّمة على مصلحة المجتمع، وأنّ أي تشريع لا بُدّ أن يصب في مصلحة الفرد وإذا شُرّع قانون للمجتمع فلا بُدّ أن يكون تشريعاً يخدم الفرد أولاً ثم المجتمع ثانياً!
فالليبراليون هم أصحاب القول بـ«أصالة الفرد» في قبال بعض المذاهب الاجتماعية التي ترى «أصالة المجتمع»، والليبراليون ينادون بالحرية الفردية المطلقة.
الحرّية المطلقة
إنّ دعاة الحرية والليبراليين يسعون للحرية المطلقة ويرفضون أي تقييد للحرية، ويعتبرون ذلك سلباً لحرية الإنسان وانتهاكاً لحقٍّ من حقوقه المشروعة.
ولكن، ومن خلال التعمق في البحث والتدقيق في أطروحة الحرية نجد أنّه لا يوجد أحدٌ يؤمن بالحرية المطلقة ويرفض أي تقييد لها، فحتى الليبراليون فإنّهم يقبلون بنوعٍ من التقييد للحرية، وكما يقولون: فإنّ حرية كل إنسان مطلقة، ولا يقيدها شيء إلا أن تتعارض مع حرية الآخرين وتعتبر سلباً لحريات الآخرين.
والحاصل أنّ دعاة الحرية والليبرالية لا يرون إلا الحرية كقيدٍ للحرية فالإنسان حرٌ ولا يُقيّد حريته إلا سلب حرية الآخرين، فالإنسان له الحرية المطلقة وحريته تمتدُّ إلى الحد الذي يُعتبر سلباً لحريات الآخرين، فإذا وصلت حريةُ شخصٍ إلى حد حرية الآخر، فعندها يلتزمون بتقييد حريته.
والنتيجة أنّه لا يوجد أحد يقول بالحرّية المطلقة وأنّه لا يحق لأحد أن يقيد الحريات، بل وجدنا أنّهم أنفسهم يمارسون تقييد الحرية نظرياً وعملياً.
إذاً المسألة الخلافية ليست في أصل تقييد الحرية – حيث أن الكلّ لا يؤمن بالحرية المطلقة – بل في من له الحق في تقييد الحريات ومنع ممارسة الحريات المطلقة.
الليبراليون والإسلاميون
أمّا الليبراليون: فهم يؤمنون بمحورية الإنسان «هيومانيسم» وأنّ الإنسان هو الذي يحدد قيود الحريات بحيث لا تتعدى حريات الآخرين، فيضع القوانين والتشريعات التي تحقق هذه الغاية وهي: عدم تجاوز الآخرين فقط.
فمثلاً: شرب الخمر الذي لا يُعتبر – بتصورهم – تعدّياً على حريات الآخرين هو جائز وقانوني، ولا يحق لأحدٍّ أن يعترض على شخص شرب الخمر جهاراً، وكذلك إذا خرجت الفتاة سافرةً وبلا حجاب، فهذا لا يعتبر تعدياً على حريات الآخرين، فالسفور وعدم لبس الحجاب قانوني.
والحاصل أنّ الليبراليين يرون الشرط الوحيد في تقييد الحريات هو عدم التعدّي على حريات الآخرين، والذي يعّين ويشخّص ذلك هو نفس الإنسان، فالإنسان هو الذي يشرّع ويضع القوانين التي يراها حافظة لحريات الآخرين، فالمرجع هو الإنسان والغاية عدم تجاوز وانتهاك حريات الآخرين.
وأمّا الإسلاميون فإنّهم يؤمنون بمحورية الله تعالى، وأنّ قَدَر الإنسان أن يكون عبداً خاضعاً مُنقاداً لأوامر السماء، فالإنسان وإن كان «حرّاً تكويناً» وله فعل ما يشاء، إلا أنّه «عبدٌ تشريعاً» حيث لا يحق له تجاوز تشريعات الأنبياء (عليهم السلام).
فالإنسان المؤمن ينطلق من فكرة العبودية لله؟عز؟، ويرى أنّ بلوغ الكمال الإنساني لا يتحقق إلا بجعل جميع الأقوال والأفعال والأفكار تابعة لإرادة الله تعالى، وأنّ إطلاق العنان في فعل ما يشتهي وجعل النّفس تفعل ما تهوى هو تسافل وسيرٌ في طريق الهلاك الدنيوي والأخروي.
والحاصل أنّ الرؤية الإسلامية تقيّد حرية الإنسان بقيود الشرع المقدّس، فالإنسان حرٌ ما لم يخالف حكماً إلزامياً، فلا يفعل الحرام ولا يترك الواجب في جميع الأصعدة الفردية والاجتماعية والسياسية و…
وعليه فإذا آمن شخصٌ بالإسلام، فلا يحق له أن يشرب الخمر بحجة أنه حرٌّ ويمارس حقه الفردي وأنّه لا يتعدى على حقوق الآخرين؛ وذلك لأنّ شرب الخمر يُعتبر انتهاكاً لحق الله تعالى وتعدّياً على حدوده، والإنسان غير حرُّ تشريعاً في ارتكاب المحرمات.
وكذلك إذا آمنت الفتاة بالإسلام، فلا يحقّ لها أن تخلع الحجاب وتخرج سافرة في الطرقات بحجة أنّ هذه حرية فردية، وهي تمارس حقها الفردي ولا تتعدى على حقوق الآخرين؛ وذلك لأنّ السفور تعدّي على حق الله تعالى، والفتاة غير حرّة تشريعاً في فعل ما تريد، مضافاً إلى كون السفور اعتداءاً على حرمة المجتمع، حيث يسبب التهتك وتلويث الأجواء الإيمانية ويعبّد الطريق للجرائم الأخلاقية.
الحرمة المعنوية للمجتمع
إذا أنشأت شركة كيميائية في وسط المدينة، وكانت تسبب التلوث لأبناء المدينة، بل تؤدي إلى موت النّاس وإنجاب الأطفال المشوهين و…، فإنّ الكل سوف يعترض على هذه الشركة وصاحب الشركة ويطلبون منهم أن يوقفوا عمل هذه الشركة، بعدما سببت هذه المصائب المادية للمجتمع.
فهل يُصغى إلى من يقول: بأن صاحب الشركة حرّ وهو يمارس حقّه الشرعي؟ ولا يسوغ لنا منعه وتقييد حريته؟!
والجواب: إنّه حتى الليبراليون لا يقبلون بفعل صاحب الشركة ولا يرونه حرّاً في تصرفه؛ وذلك لأنه تعدى على الآخرين وسبب لهم الأذى، والحرية الفردية تقف عندما تصل إلى انتهاك حق الآخرين.
ونقول: إنّ الرؤية الإسلامية تسعى لتحقيق المصالح المادية والمعنوية وتقف في وجه أيّ عمل وممارسة تسبب المفاسد المادية والمعنوية، و«تشريعات الإسلام» هي الكاشفة عن المصالح والمفاسد المادية والمعنوية، الفردية والاجتماعية.
وعليه فلا يحق لأحدٍ أن يمارس الفساد ويرتكب الحرام، كشرب الخمر والسفور والزنا والربا و… من المحرمات بحجّة أنّه يمارس حقه الفردي، ولا يتعدى على حقوق الآخرين.
وذلك: لأنّ ارتكاب المعاصي والذنوب يعتبر تضيييقاً وهتكاً لمعنويات المجتمع، وسبباً لانتشار الأمراض المعنوية والعُقد النفسية، حيث يهتك عفاف المجتمع وتزول الحصون الحافظة للأعراض والحرمات؛ لأنّ كلّ معصية تكون مِعولاً هداماً لكيان المجتمع.
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
ولذلك نجد في أحكام الإسلام وتشريعاته، فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، التي تعتبر من أهم الواجبات، بل الفريضة التي تقوم عليها سائر الفرائض والواجبات.
فهذه الفريضة هي صمّام الحفظ للأحكام والمجتمعات؛ فإذا حصل عطبٌ في فريضة بأن تُرِكَت، عندها تأتي هذه الفريضة لتدعو للإتيان بالفريضة المتروكة، وإذا حصل فسادٌ في المجتمع بأن تركت الفتاةُ الحجاب مثلاً، عندها يأتي النّهي عن السفور والأمر بالحجاب والعفاف.
فالإسلام يرى وجوب هذه الفريضة على من يعتنقه، فهي فريضة واجبٌ الإيمان بها والعمل بمقتضياتها، كما نؤمن بالصلاة ونؤديها، فلا يقال: لا ينبغي نهي الفتاة إذا خلعت الحجاب، فهذه حرّيتها وحياتها الخاصة، فهذا كلام غير إسلامي بل هو تبريرٌ شيطاني.
بين الحرية التكوينية والحرية التشريعية
ومن المناسب في المقام التفريق بين مقامين: التكوين والتشريع حتى لا يتم الخلط بينهما وإسراء حكم أحد المقامين إلى الآخر.
وبيان ذلك أنّ معنى«الحرية التكوينية» هو كون الإنسان يملك القدرة على الفعل والترك، فله أن يشرب هذا الكأس أو ذلك الكأس، فهذه حرية ترجع إلى تكوينه وأصل قدرته وطاقته، ومعنى «الحرية التشريعية» أن الشرع والقانون يسمحان له بالعمل الفلاني.
وقد يكون الشخص قادراً على فعل شيء تكويناً إلا أنّه ممنوع عنه قانوناً، فهو قادر على أن يقود سيارته بسرعة 180؛ إلا أنّه ممنوع عن ذلك قانوناً، بل ويعاقب على هذه السرعة، فهذا الشخص يملك الحرية تكويناً إلا أنّه لا يملك الحرية تشريعاً.
وذلك في الأحكام الدينية، فقد يكون الإنسان يملك القدرة على فعل شيء فيكون حرّا تكويناً، إلا أنّه لا يملك القدرة الشرعية على فعله حيث لا يكون حراً تشريعاً، كشرب الخمر والسفور والسرقة و….
والحاصل أنّ كون الإنسان يملك القدرة التكوينية على الفعل لا يدل على ثبوت القدرة التشريعية له أيضاً؛ وهذا القانون كما هو جارٍ في الأنظمة البشرية فهو جارٍ في الأنظمة الإلهية كذلك، وكما يقولون فلسفياً: أنّه لا يمكن الاستدلال على «ما هو كائن» بـ«ما ينبغي أن يكون».
الحرية والعبودية
وبالدّقة العقلية وبالتأمل في حياة البشرية؛ فإننا لا نجد الحرية إلا على صعيد الأطروحات النظرية والفكرية، أمّا على صعيد السلوكيات العملية والأفعال الخارجية، فلا نجد إلا العبودية. نعم، هناك فرقٌ بين ما هو معبود في النظرة الإلهية وبين الرؤية الإلحادية الغربية:
فالإسلام يرى العبودية لله؟عز؟؛ فالإنسان عبدٌ لله خاضعٌ له، لا يرى لنفسه كمالاً إلا بامتثال أحكام السماء وطاعة الأنبياء (عليهم السلام)، فالإنسان الذي لا يتّبع الهوى، ولا ينخدع بزخارف الحياة الدنيا، ولا يسكر بملذّاتها وغرورها، بل يكون خاضعاً لربّه فيما يأمر وينهى، سالكاً طريق الكمال إلى سدرة المنتهى، عندها يحصل الإنسان على الحرية من الدنيا وشهواتها وملذاتها، ويتحرر من كل قيودها وأغلالها، على كثرتها وتنوّعها، ليكون عبداً لشيء واحد، يعبده لا يُشرك به شيئاً، إنه الله تعالى الذي بعبوديته نصل إلى كنه ربوبيته والكمال والزلفى.
والليبرالية ترى العبوية للأهواء والشهوات والملذات المادية الداثرة الزائلة، فهم في مستنقع الشهوات يكرعون، وفي لوث المعاصي يتنفسون، ومن آسان الذنوب يشربون.
دعوا إلى التحرر، ولكن كانوا يقصدون التحرر من الفضائل والسلوكيات الصالحة، ورفضوا العبودية لأنّ فيها تقييداً للحرية، والحال أنّهم راكعون ساجدون للأهواء والشهوات، تحرّروا من عبادة الله تعالى ليرتموا في أحضان الشيطان والنّفس الأمارة بالسوء، يعبدون الشّيطان ويطيعون النفس الأمارة بالسوء، فأيّ حرية هذه التي يدعون إليها؟!
والحاصل إمّا العبودية لله تعالى أوالعبودية للشيطان والنّفس الأمارة، والحرّية لا معنى لها إلا التحرّر من طاعة الله وشريعته، وإمّا التحرر من طاعة الشيطان وشِراك النفوس الأمارة بالسوء.
الحرية شيطنة غربية
إنّ إحدى الوسائل الشيطانية التي ابتكرتها أفكار دهاة البشرية أن دعوا إلى الحرية وروّجوا لها، وذلك من أجل السيطرة على مقدّرات البشرية.
فالحرية الغربية: تدعو إلى رفض الدين وقوانين السماء، واستبدالها بقوانين الأرض والإنسان، والدّين وتعاليمه كان مانعاً لأطماع الطغاة، وحصناً يحفظ العباد والبلاد، فإزاحة الدّين غاية لتحقيق أهدافهم والسيطرة على مقدرات الشعوب وأوطانهم.
والحرية الغربية: تسبب إنهيار الشعوب وتفكك الأسر وتحلل الأفراد، فبالحرية الغربية تُدمّر النفوس والأرواح لتصبح أسيرة للشهوات والأهواء، ومع خواء الإرادات تستسلم لكل باغي وعادي، وتسلّم العباد والبلاد لأطماع الطغاة.
والحرية الغربية: تجعل الشعوب تسعى وراء سرابٍ لا واقع له، وتدعوها للتخلّي عن أسباب سعادتها ورفاهها؛ فلا أوطانها ملكتها ولا سعادتها حققتها ولا الأعداء منعتها بل روّجت لأكذوبة أعدائها وسارت في ركب مخططاتها، فخسرت دنياها وآخرتها.
وأمّا الحرية الإسلامية تدعو إلى التحرر من الأهواء والشهوات والتكامل على صعيد الفكر والأخلاق والسلوك والانقياد لأحكام الدين، إن مثل هذه الحرية تُحقّق سعادة الدنيا والفوز بالآخرة، فالدين هو الحرّية التي توقف الأعداء عن الهجوم على بلاد الإسلام، والدين هو الوسيلة لارتقاء الشعوب والبلدان والرّقي بها والرفاه، والدين هو الصراط الذي يأخذ بسالكيه إلى الجنات والقصور والمكرمات.
فهذه حرية وتلك حرية! فأي حرية تريد؟!