القبر

أخي ..

إن القبر في كل يوم يردد: «أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ، وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ، وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ» .. والقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار!!

وفي القبر تبدأ الحياة الجديدة (عالم البرزخ) .. «اللهم أعني على الموت وما بعد الموت» .. وعالم القبر والبرزخ هو أوّل الحياة في عوالم الآخرة، بعد أن تصرّم وانتهى «عالم الدنيا».

إلهي ..

«وَارْحَمْنِيْ إِذَا اشْتَدَّ الْأَنَيْنُ، وَحُظِرَ عَلَيَّ الْعمَلُ، وَانْقَطَعَ مِنِّيْ الْأَمَلُ، وَأَفْضَيْتُ إِلَى الْمَنُوْنِ، وَبَكَتْ عَلَيَّ الْعِيُوْنُ، وَوَدَّعَنِيْ الْأَهْلُ وَالْأَحْبَابُ، وَحُثِيَ عَلَيَّ التُّرابُ، وَنُسِيَ اسْمِيْ، وَبَلِيَ جِسْمِيْ، وَانْطَمَسَ ذِكْرِيْ، وَهُجِرَ قَبْرِيْ، فَلَمْ يَزُرْنِيْ زَائِرٌ، وَلَمْ يَذْكُرْنِيْ ذَاكِـرٌ»

الليلة الأولى «ليلة الوحشة»

إن أشد وقتٍ يمرُّ على الميت بعد موته، هو «ليلة الوحشة»؛ فبعد أن كنت مع الناس تضحك وتفرح وتأنس بهم، وإذا بِكَ الآن في القبر وحيداً لا صاحب معك، وفريداً غريباً تكابد فزع الفراق وتعيش الظلمة والوحشة وضيق اللّحد!

«إلهي إرحم في هذه الدنيا غربتي وعند الموت كربتي وفي القبر وحدتي وفي اللحد وحشتي وإذا نُشرتُ للحساب بين يديك ذُل موقفي»[1]

أخي ..

ها قد وضعوك على المغتسل، وجرّدوك من ملابسك، وغسّلوك ومن ثمّ لفوك بالكفن، وصلّوا عليك صلاة الأموات، وبعدها حملوك على الأكتاف إلى حفرتك و قبرك .. وها هُم يُنزلوك رويداً رويداً في اللحد، ولقّنوك ودعوا لك .. ثم أهالوا عليك التراب ودفنوك، والآن أنت في القبر وحيداً غريباً خائفاً .. ذهب الجميع ولم يبق معك إلا عملك .. فـ«العمل» هو الذي سيبقى معك في القبر.

فإن كان العمل صالحاً، والأخلاق فاضلة والعقائد محقة؛ فإنك ستعيش الراحة في قبرك، وسيتحوّل القبر إلى روضة من رياض الجنة، وسيكون العمل الصالح مؤنساً لك في قبرك ..

وإن كان العمل طالحاً، والأخلاق سيئّة والعقائد باطلة؛ فإنك ستعيش التعب في قبرك، وسيتحول القبر إلى حفرة من حفر النيران، وسيكون العمل الطالح سبباً لآلامك في قبرك ..

قصة صاحب العمل الصالح

يروى أن رجلاً صالحاً من أهل المكاشفة كان جالساً في إحدى المقابر، وإذا به يشمّ رائحة طيّبة ويرى رجلاً جميلاً نورانياً تنبعث منه روائح زكية و طيّبة، وكان هذا الرجل الجميل يمشي ثم اختفى عند قبرٍ وكأنه دخل فيه، وبعد فترة بسيطة رأى كلباً قبيحاً تنبعث منه روائح نتنة، وتوجّه هذا الكلب إلى نفس ذلك القبر واختفى فيه، فتعجّب الرجل الصالح من هذا المشهد، ولم يفهم حقيقة الأمر!!

وما هي إلا ساعة، وإذا بالشاب الجميل النوراني قد خرج من ذلك القبر، ولكنه كان ممزق الثياب والدم يسيل منه وآثار الجراح ظاهرة عليه!

فسأله الرجل الصالح: من أنت؟ وماذا حصل لك؟ ومن الذي فعل بِكَ هذا الفعل؟!

فقال الشاب الجميل النوراني: أنا «العمل الصالح»، وقد توجّهت إلى صاحبي في قبره لكي أكون له مؤنساً وصاحباً في قبره .. ولكن كان الميت من العُصاة وأعماله السيئة أكثر من أعماله الحسنة و «الكلب» الذي رأيته هو عمله الطالح! وبما أن أعماله الطالحة أكثر فلذلك انقضّ عليّ وفعل فيّ ما ترى! وأخرجني من القبر! فالميت الآن مع الكلب، وهو العمل الطالح، وهو قرينه إلى يوم القيامة!!

أخي ..

تخيّر لنفسك القرين والصديق في قبرك .. واحذر أن يكون عملاً طالحاً، وفكّر في طول الطريق وبُعد السفر .. وأنه لابد من رفيق صالح في هذا الدرب!

سؤال منكرٍ و نكير

ها أنت وحيدٌ في قبرك، تكابد آلام الوحشة، وتعاني من الخوف والظلمة و تتجرّع ضيق اللحد والمحل .. وتعيش القلق والاضطراب من المستقبل القادم .. وإذا بصوتٍ مخيفٍ قادم كالرعد الصاعق .. إنهما «منكر» و «نكير»!

جاءا يسألانك: من ربك؟ من نبيك؟ من إمامك؟ من .. من .. من؟!

فلا تخف يا عزيزي، فأنت كنت في الدنيا تعرف ربّك وكنت تعبده، ولا تشرك في عبادته أحداً .. فقل: الله ربي ..

وكنت تطيع رسولك (ص) وتسير على نهج الأئمة (علیهم السلام) فقل: محمد (ص) نبيِّ، وعليٌّ إمامي، و ….

لكن إن كنت في الدنيا غافلاً عن الدين، ولا تهتم بالطاعات ولا اجتناب المحرّمات .. فقد لا تتمكّن من الإجابة، وعندها سيغضب عليك الملكان وسوف يُملأ قبرك ناراً، وأنت تقاسي وتعاني في القبر بسبب تقصيرك في هذه الدنيا والسعي وراء حطامها واللعب واللهو فيها!!

أخي ..

لنفرش القبر بالأعمال الصالحة قبل أن نرحل عن الدنيا ..

ولا تجعل قبرك حاوياً على الأشواك والعقارب والحيّات ..

ولنعدّ العدة كي نُجيب على أسئلة منكرٍ ونكير ..

ولنذرف الدموع على أنفسنا إذا عصينا ربنا .. قبل أن نوضع في قبورنا ..

فَمالي لا أَبْكي ..

«أَبْكي، لِخُروجِ نَفْسي، اَبْكي لِظُلْمَةِ قَبْري، اَبْكي لِضيقِ لَحَدي، اَبْكي لِسُؤالِ مُنْكَر وَنَكير اِيّايَ، اَبْكي لِخُرُوجي مِنْ قَبْري عُرْياناً ذَليلاً حامِلاً ثِقْلي عَلى ظَهْري، اَنْظُرُ مَرَّةً عَنْ يَميني وَاُخْرى عَنْ شِمالي، إِذِ الْخَلائِقِ في شَأن غَيْرِ شَأني <لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأنٌ يُغْنيهِ 37 وُجوُهٌ يَوْمَئِذ مُسْفِرَةٌ 38 ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ 39 وَوُجوُهٌ يَوْمَئِذ عَلَيْها غَبَرَةٌ 40 تَرْهَقُها قَتَرَةٌ>[2] وَذِلَّةٌ»[3]

ضغطة القبر

لقد سمعنا أن في القبر ضغطة، تنكسر فيها العظام وتضيق فيها الأنفاس وتُعصر فيها الأرواح .. إنها ذمّة القبر وضغطته وآلامه، ولا يمكن لأحدٍ أن يتحمّل ضغطة القبر! والذي لابد أن نعلمه: أن هذه الضغطة هي بسبب أعمالنا في الدنيا، فكل ما نعمله اليوم في الدنيا فسوف نلاقيه في الآخرة، وهناك معاصٍ لها أثرٌ خاص في حصول الضغطة:

فإذا كنت في الدنيا تُدخل الضيق على الآخرين، وتسبب لهم الهمّ والغمّ، وتصعّب عليهم حياتهم، وتجعلهم مُتعبين بسبب سلوكك وتصرفك، فإنّ من نتائج هذا العمل السيء أن تبتلى بضغطة القبر.

أما إذا كنت في الدنيا تُدخل على قلوب الناس السرور والراحة، وتُسهّل عليهم حياتهم، وتجعلهم يعيشون راحة الفكر وطمأنينة النفس والعيش الرغيد، فسوف لن ترى في لحدك ضغطة القبر.

قصة ضغطة القبر

يروى أن رجلاً من كبار الصحابة الصالحين قد مات، فقام المسلمون بتشييعه إلى قبره، وكان في مقدمتهم رسول الله (ص) والذي مشى في جنازته حافياً! وكانت الملائكة مع المسلمين تشيّعه لعظم منزلة هذا الصحابي، وكانت أمّه تشاهد هذا التشييع المهيب وتقول: هنيئاً لك يا بُنيّ الجنة. فالتفت لها الرسول (ص) وقال: لا توجبي على الله شيئاً، ثم قال: وإنّ مثله ليُضمّ (أي تصيبه ضغطة القبر) فتعجب الصحابة أنه كيف تُصيب مثل هذا الصحابي الجليل ضغطة القبر؟!

فقال الرسول (ص): إن في خُلقه زعارة (أي أن تعامله مع أسرته كان فيه شيء من سوء التعامل) ولذلك سوف يُضمّ حتى يُكفّر عن سيئاته.

أخي ..

لنعش الأخلاق الرفيعة مع المؤمنين، مع العائلة، ومع الأصدقاء .. ولنهجر الأخلاق الذميمة وسوء الخلق حتى لا نبتلى بـ«ضغطة القبر» ..

لا ننسى الأموات

إنّ الميت في قبره في أمسّ الحاجة إلى الأحياء؛ فهو وإن انتقل عن الدنيا وصار إلى عالم القبر والبرزخ، وهو الآن لا يقدر على القيام بـ«الأعمال الصالحة». ولكن الهدايا وثواب الأعمال التي يرسلها له الأحياء تنفعه في قبره، فتوسع عليه القبر وتجعله نورانياً جميلاً ..

والميت يأنس بالذين يأتون لزيارة قبره ويقرأون عليه القرآن والدعاء ويحسُّ بالسعادة والفرح؛ لأن الناس ما نسوه وما زالوا يذكرونه ويرسلون له ما ينفعه في قبره .. «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وولد صالح، وعلم يُنتفع به».

أخي ..

لا ننسى الأموات، وبالأخص الأهل من الوالدين والأخوة والأخوات .. فكل عملٍ صالح تعمله كالصلاة والصيام والدعاء وقراءة القرآن فإنه يمكنك أنّ تهدي ثوابه لكلّ الأموات.

همسة وجدانية .. رسالةٌ لكم أيها الأحياء .. تأتيكم من عالم الأموات .. فهل تسمعون: كنّا بالأمس معكم، واليوم قد رحلنا عنكم، وغداً أنتم ستلحقون بنا فذهبت زهرةُ الشباب، وانقضت فرصة الأعمار وسكنّا الأجداث حاملين معنا ثقل أحمال الذنوب، ونادمين على ما فات من فرصة الحياة ..

فهل ستنسون مثل هذا اليوم .. وما أعظم أهواله؟!!

وهل راقبتم أنفسكم وأخلاقكم وأعمالكم .. فالحساب دقيق!!

وهل رجعتم إلى الله بالتوبة والإنابة .. حتى طهّرتم القلوب!!

فالعجل العجل العجل ..


[1]- دعاء أبو حمزة الثمالي

[2]- عبس: 37-41

[3]- دعاء أبي حمزة الثمالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى