فلسفة السجن
جدول المحتويات
أحبتي .. إنّ محنة السجن وبلاء الاعتقال محطّة لـ«الإعداد الروحي» والتكامل والخروج من أسر الدنيا؛ فمن هذا السجن نعبر محلّقين طائرين نكسر أغلال الشهوات وقيود الأهواء، لنتحرر من سجن الدنيا ونتجرد من حب الدنيا، لنكون من أهل الآخرة وأهل الله ..
فلنبحث ونفكر عن «حرية الروح» قبل أن نفكر عن «حرية البدن»؛ فالروح عندما تلهث وراء الشهوات، وتُطيل الأمل في هذا الحطام، وتشتغل بجمع المال والتباهي بالأولاد ولا ترتدع عن ارتكاب المحرمات، وتقصّر في أداء الواجبات فهذه «روح» تعيش الأسر والسجن والعبودية، وعبد الشهوة أشد من عبد الرِّق!
فمتى نفكر في «حرية الروح» وإخراجها من أسر الشهوات والشيطان؟ فاعقِد العزم ولا تتردد، وقُم بالثورة الوجدانية و «جهاد النفس» وحرّر روحك المسكينة.
سجن الأحياء وسجن الأموات
هذا السجن الذي نعيشه اليوم هو قبر الأحياء ولكن القبر الذي سنرحل إليه غداً هو سجن الأموات، فلنكن من أهل الله الذين ينظرون بعين الله فنرى هذا السجن مُذكّراً لنا بذلك اليوم عندما نُسجن في القبر رهينين بأعمالنا؛ لا مؤنس معنا ولا صديق يفرج غربتنا ولا ضياء يزيل الخوف عنا، إلا العمل الصالح الذي يعيننا في قبرنا.
أحبتي .. «سجن الروح» أصعب من «سجن الأجساد»؛ فإذا كنا نعيش التعب والضيق من هذا السجن، فكيف صبرنا على سجن القبر حيث العقارب والحيات، وظلمة القبر و وحشته، وضيق اللحد وضنكه؟! فلنبادر إلى العمل الصالح حتى نوسّع القبور ونجعلها روضة من رياض الجنة، ولا ننخدع بالدنيا ولا نقع في حرامها حتى لا نقلب القبر ونصيّره حفرة من النار.
الجنة حُفَّت بالمكاره والصبر، والنار حُفّت بالشهوات ..
فَمَنْ يَكُونُ أسْوَأ حالاً مِنّي إنْ أَنَا نُقِلْتُ عَلى مِثْلِ حالي اِلى قَبْرٍ، لَمْ اُمَهِّدْهُ لِرَقْدَتي، وَلَمْ اَفْرُشْهُ بِالْعَمَلِ الصّالِحِ لِضَجْعَتي[1]
أحبتي .. إنه سيطول وقوفنا يوم القيامة في الحساب وعلى الصراط، وسوف نُحبَس ونُسجَن على كلّ مخالفةٍ ومعصيةٍ، وسوف يشتد بنا الحال وتزيد المعاناة عندما لا نحمل معنا الزاد .. وخير الزاد التقوى والورع فانظر إلى باطن هذا السجن بعين البصيرة لتتجسّد لك الآخرة بكل عقباتها، وانشغل بإعداد ما يخلصك من «سجن القيامة» ولا تكن كالآخرين الذين كل همهم هو الخلاص من هذا السجن!!
إن أولياء الله هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذا نظر الناس إلى ظاهرها، واشتغلوا بآجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها ..
السجن والتربية الروحية
إن هذه الأيام التي نقضيها في السجن وخلف القضبان تعين على تزكية النفس وتربيتها؛ فهناك الكثير من «اللذائذ المحللة» هي محرّمةٌ علينا بسبب ظروف السجن، وليكن هذا درسٌ لنا بأن نتعوّد بأن لا نطلق العنان لأنفسنا بأن نسعى لكل لذةٍ ونلهث وراءها، والأهم أن تصير في داخلنا «ملكة» أن نتحكم في اللذائذ التي نعطيها للنفس، فلا نعطيها شيئاً من «اللذائذ المحرّمة» .. فـ«دورة السجن» تعين على تحصيل مثل هذه الملكة الفاضلة والأخلاق الجميلة .. فالنفس على ما عوّدتها تعتاد.
هذا السجن وسجن الدنيا
في الحديث أن «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» فالكافر لا يرتدع عن المحرمات وكل همه اللهث وراء الشهوات، أما المؤمن مانعٌ للنفس عن الهوى، سائرٌ على طرق الهدى مجاهدٌ للنفس حابسٌ لها، قد قيّدها بالتقوى؛ فلا يخلّي نفسه تفعل ما تشاء ..
وهكذا إخوتي .. فنحن في هذا السجن لا نعمل بكلّ ما نريد ولا نقدر على فعل كل ما نشتهي، وإن كان بغير اختيارنا .. إلا أن المؤمن يرى نفسه في الدنيا سجيناً لا يفعل كل ما تشتهي نفسه وترغب إليه، فهو ساجنٌ لنفسه بإرادته من أجل أن يعيش الحرية بعد الممات، يسجن البدن ورغبات الجسد من أجل الحصول على حرية الروح وطمأنينة النفس ..
«أرادَتْهُمُ الدُّنْیا فَلَمْ یُریدُوها، وَ اَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا اَنْفُسَهُمْ مِنْها»[2]
أحبتي .. هذه الأيام التي نقضيها في السجن سوف تنتهي، وسوف نتحرر قريباً بإذن الله تعالى، لكن ينبغي أن نحرر الروح قبل أن يتحرر البدن، وذلك بأن نعيش «روحانية السجن» وأسراره المعنوية بذكر سجن القبر والبرزخ وعرصات يوم القيامة و…، ونرفض أغلال الشهوات ونكره أن نكون عبيداً للبطن والفرج ونعشق مكارم الأخلاق ونمقت الأخلاق الذميمة، ونعيش العبودية لله تعالى، ونتحرر من عبادة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ..
كيف نصبر على السجن؟
لكي نكون قادرين على تحمل السجن وشدة غربته، فلا ننكسر ولا نتراجع ولا نقبل بالذل والهوان، علينا أن نستعين بالقوة التي لا تُغلب، والمعين الذي لا يترك من استعان به وهو الله تعالى حيث نقوّي علاقتنا به في الليل والنهار، فلا نغفل عنه أبداً، ونسعى لتحصيل رضاه والقيام بكل ما يريد، فهو ربّنا، ونتوسل إليه بأن يعيننا على سجننا وما حلّ علينا من بلاء.
القلب الذي يعيش الله فيه: هو قلب مطمئن ساكن، لا خوف ولا حزن فيه ولسان حاله خُذ يا رب حتى ترضى، خُذ شمعة شبابنا تحترق في السجن من أجلك ومن أجل الدين، وسأعيش الحرمان من طيب الحياة بين هذه القضبان من أجل العزة والكرامة التي لا ترضى لعبادك أن يخسروها.
والروح إذا قوّت الارتباط بالله خالقها: سمت إلى المعالي، وسهل عليها بلاء هذا السجن، وخاضت غماره صابرة ثابتة حتى يأذن الله ..
قصة الإمام الكاظم (علیه السلام)
لقد سجن الإمام الكاظم (علیه السلام) لسنوات عدة، حيث كان يُنقل من سجن إلى سجن ومن طامورةٍ إلى أخرى، وكانت أكثر معاناته (علیه السلام) في زمان هارون الرشيد الذي عُرف بالظلم والبطش وسفك الدماء، وفي أحد الأيام جاء هارون للقاء الإمام (علیه السلام) في سجنه، فسأله: كيف حالك يا ابن العم؟! فأجابه الإمام (علیه السلام): يا هارون، إن كل يوم ينقضي من عذابي، فإنه يزيد في عذابك يوم القيامة.
قصة السجناء العلويين
لقد كانت السجون مُمتلِئة من العلويين، خصوصاً في زمان الطاغية «هارون الرشيد»، وفي إحدى الزنزانات كان هناك رجل طاعن في السن قد أتعبه السجن حيث ما كانوا يعرفون الليل من النهار إلا من خلال قراءة القرآن؛ فكل شخص يقرأ مقداراً منه على طول اليوم و الليل (24 ساعة)، وبذلك يعرفون أوقات الصلوات. فقد كانوا في سجنٍ تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ولا أوقات الصلوات!
فقال العجوز السجين لأحد العلويين المعروفين بالصلاح والزهد: لِمَ لا تدعُ الله لكي يخلصنا من عذاب هذا السجن، فأنت مُستجاب الدعوة. فقال له العبد الصالح: يا عم، هل تحب أن يخف العذاب على «هارون الرشيد» يوم القيامة؟ دعنا نصبر على هذا السجن في الدنيا، وسوف يلاقي عدوّنا سجن الآخرة بسبب ظلمه لنا. فقال العجوز: لا، لا تدع، سنصبر حتى يُزاد في عذاب هارون.
اللَّهُمَّ وَ إِنْ كَانَتِ الْخِيَرَةُ لِي عِنْدَكَ فِي تَأْخِيرِ الْأَخْذِ لِي وَ تَرْكِ الِانْتِقَامِ مِمَّنْ ظَلَمَنِي إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ وَ مَجْمَعِ الْخَصْمِ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ أَيِّدْنِي مِنْكَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ وَ صَبْرٍ دَائِمٍ وَ أَعِذْنِي مِنْ سُوءِ الرَّغْبَةِ وَ هَلَعِ أَهْلِ الْحِرْصِ، وَ صَوِّرْ فِي قَلْبِي مِثَالَ مَا ادَّخَرْتَ لِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَ أَعْدَدْتَ لِخَصْمِي مِنْ جَزَائِكَ وَ عِقَابِكَ.[3]
[1]- دعاء أبي حمزة الثمالي [2]- نهج البلاغة، خطبة 193، خطبة المتقين [3]- الصحيفة السجادية، الدعاء الرابع عشر