لغة الجراح ولغة الأكتاف

إقدام المضحين

عندما تنفجر الثورة، يقوم المضحون وأرواحهم على أكفهم ودماءهم تصبغ الأرض لتروي شجرة الحرية والعزة والكرامة، لا يطلبون دنيا ولا ينخدعون بزخارفها الفانية، قاموا لله جل وعلا ونصروا دينه وحفظوا عباده وبلاده، وكانوا شوكة بوجه أعدائه، رافعين لواء الجهاد ضد الطغاة والمستكبرين فكان منهم المهجر والسجين، وكان منهم المسافر مع الشهداء الراحلين.

ملؤوا الساحات وأسقطوا العروش

إنهم الشباب الذين يملؤون الساحات ويسطرون أروع الملاحم، وتّدوا في الميدان أقدامهم، وهنفوا بسقوط طغاتهم، وأخذوا يكتبون بقلم الفداء ودمائهم على جراحاتهم، وكانت صرخات الثاكلات سكن آلامهم، ودموع الأطفال وهج إقدامهم، حتى زلزلوا القصور وسقطت العروش وانتصر الدم على السيف.

لغة الجراح

إنّ لغة الجراح يفقهها هؤلاء الشباب، فهم تيجان الأوطان وشمعة تضيء في وسط الظلام والوعد الصادق والأمل حين تقطعت كل الآمال، والثورة تحتاج إلى من يفقه مثل هذه اللغة ويترجمها بالأعمال والتضحيات، وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

لغة الأكتاف

هناك من لا يفقه إلا لغة الأكتاف والركوب على مكتسبات الشباب والأمة وتضحياتهم، فهم أثناء الثورة وعندما يتطلب الأمر تقديم التضحيات والعيش في السجون ومقاساة الظلامات، فهم غرباء عن هذه الديار ولهم ذكاؤهم وشيطنتهم في حفظ أنفسهم من أن يصيبهم أي خدش أو تدميهم أي عثرة، فهم أبطال ميدان الراحة والنأي بالنفس عن المغامرة وإلقاء النفس في التهلكة، ويصبغون على ضعفهم وخواء إرادتهم المبررات الدينية بأن الدين يلزمهم بالحفاظ على أنفسهم في هذه المرحلة، وأنّ شخصهم – لأهميته – لا بد من المحافظة عليه، فهم أهم وأصلح.

تزييف الحقائق

متى ما تنتهي الثورة وتسقط عروش الظالمين، فإنّ لغة الجراح تكون من الأمور المنسية عندهم، فلا يُذكر من ضحّى ولا من بذل الغالي والنفيس ولا من قضى شمعة شبابه خلف قضبان السجون أو هُجّر مبتعداً عن أهله وأحبته و…، ولو كان لهم موقف مشرف في أيام الثورة بمقدار جناح بعوضة فهو الذي سيُذكر على الدوام، وكأنه هو البطل المضحي الذي لا يُدانيه أي ثائر من الشباب.

التسلّق

بعد الثورة وعند قيام الدولة تراهم في الصدارة، ويملؤون الفضاء بضجيجهم وبوعودهم وأكاذيبهم، هنا، عند الراحة والرخاء، يزمجرون وترتفع أصواتهم، فهؤلاء يعرفون لغة التسلّق على الأكتاف والحصول على المقاعد والمناصب والشهرة والظهور.

متطلبات الدولة

إنّ متطلبات الدولة غير متطلبات الثورة، ولا يكفي أن يكون الشباب يتقنون متطلبات مرحلة الثورة من تضحية وفداء وغيرها، فهذا لا يشفع لهم كي يكونوا أسياد مرحلة الدولة بحيث تكون كلمتهم هي العُليا وصوتهم هو المتقدّم، فلكل مرحلة متطلبات، وعليه: على الشباب أن يتقنوا لغة قيام الدولة ومتطلبات مرحلة السيادة، ولا ينبغي لهم أن يجلسوا متفرجين على طلاب الدنيا كي يركبوا أكتافهم ويسرقوا جهودهم ويضيعوا كل تضحياتهم وتذهب أدراج الرياح.

ضرورة الاستقامة

إن بعض الذين يركبون الأكتاف وينخدعون بالدنيا ويتفننون في خلف الوعود ويسعون لمصالحهم الشخصية والحزبية وغيرها، هم من الذين كانوا من المضحين في زمان الثورة، إما في الميادين جرحى أو في الطوامير سجناء، مع ما لاقوه من عذابات في طريق ذات الشوكة، ولكن عدم الاستقامة يجعل خاتمة هؤلاء المجاهدين تحرق كل جهودهم وتضحياتهم السابقة، قوله تعالى: <فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ>[1].

تعدّد ساحات الصراع

من المناسب أن أُشير إلى هذه اللفتة التي لا يعيشها إلّا من عاش جراحاتها وسُجن في زنازنيها وقاسى سياط جلّاديها، ألا وهي أنّ الكثير ممن يشار إليهم بالبنان من السجناء الذين يحملون بعض الألقاب وسطروا بعض المواقف التي يعجز عنها الأبطال في ساحات النزال، إلّا أنهم لا يملكون مثل هذه البطولات في الساحات الأخرى، فهو فكرياً يعيش الانحراف، وأخلاقياً يعيش الانحطاط وسلوكياً في آسان المحرقات، فهو لا يتورّع عن مشاهدة المحرمات ولا يرحم من معه في الزنزانات، فبعض السجناء آذوا أصحابهم أكثر من أزلام النظام.

والحاصل: إن قوة الإنسان في جانب لا يعني قوته وكفاءته في بقية الجوانب.

العبرة في الخاتمة

الحاصل أن الملاك هو في خواتيم الأمور والاستقامة المستمرة مع عدم نسيان الإنجازات التي قدمها الإنسان إذا كانت تتسم بالإخلاص والصدق والحقانية.

لكل مرحلة أهلها

كل مرحلةٍ لها أهلها، ونعني بذلك أنه كما نحتاج إلى المخلص والكفؤ في أيام الثورة والكفاح والتضحيات، فكذلك في أيام الدولة تحتاج إلى المخلص والكفؤ الذي يقدّم مصالح الناس على مصالحه ويكون خادماً لشعبه وساهراً على مصالحهم، فخدمة الناس شرف الدنيا والآخرة.

فرصة السجن: الارتقاء الروحي والفكري

من أعظم الفرص للسجناء أن يشغلوا وقتهم بالتربية الروحية زيادة الوعي والفكر؛ فمن الفرص الذهبية التي منحتها السماء لثلةٍ من المؤمنين المجاهدين هي حياة الزنازين، فلك أن تبني نفسك روحياً وفكرياً في أيام الشدة وصعوبة المحنة والظلمات الداكنة.

عن الأمير؟ع؟: «أَلاَ وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً، وَالْرَّوَائِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً، وَالنَّابِتَاتِ العِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً، وَأَبْطَأُ خُمُوداً»[2].

فإذا كان المستقبل أصعب من الحاضر، وامتحانات الأيام القادمة أشدُّ، فلا بدّ أن يكون الإعداد بمستوى أقوى.

المرحلة القادمة أشد صعوبة وقسوة

إن ظروف السجن وإن اشتدت وقست، ولكن تبقى الحياة المستقبلية أشد قسوة وأصعب، خصوصاً إذا كنا نريد أن نقيم دولة الإسلام ونطبق شريعة السماء، فسوف يقف في وجهنا كل الأعداء من كفار ومنافقين وشرار الناس، ويكفي أن نرى هذه الدولة الفتية (الجمهورية الإسلامية) لنرى أن سرّ صمود هذه الدولة أنها تملك أربعين عاماً من الثورة التي قدّمت آلاف الشهداء وآلاف السجناء والمهجرين و…، فلأنّ هذه الدولة قد نبتت في ظروف قاسية وتجاوزت الامتحانات الصعبة وكتبت نصرها بلغة الدم والعزم والفداء والرؤية التوحيدية الخمينية، لذلك تجدها اليوم قادرة على مواجهة كل الاستكبار العالمي، بل هي تزداد قوة يوماً بعد يوم.

إن تنصروا الله ينصركم

طب يا شعبي نفساً وامضِ قدماً وتوكل على الله وارجه أملاً، فالمستقبل لعباده الصالحين، وما علينا إلا أن نثبت ونستقيم حتى آخر المطاف، قوله تعالى: <إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ>[3] والأرض يرثها عباده الصالحون.

الإعداد المناسب للمرحلة

على كل حال، لا بدّ للثوار والمخلصين أثناء الثورة أن يعدّوا أنفسهم للمرحلة القادمة، ولا يكون كل همهم الاشتغال بمرحلة الثورة وجراحاتها، فلا بدّ أن ننظم صفوفنا ونقوّي روابطنا ونشتغل ببناء الدولة قبل أن تقوم، ولا نسمح للمستغلين أن يركبوا على الأكتاف، وذلك بالوعي والبصيرة ووضوح الرؤية.

فالمعارك القادمة ليست معارك عسكرية ولا معارك عضلات، بل هي معركة الفكر والوعي وصراع الإرادات.

الارتقاء بالشباب

لا بدّ من تربية الشباب من اليوم على الجانبين:

الفكري: حيث يرتقون في فكرهم وبصيرتهم ورؤيتهم الكونية التوحيدية.

الروحي: بالتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.


[1] هود: 112   

[2] نهج البلاغة، كتاب: 45

[3] محمد: 7

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى