الظالم الأوّل والطحية العمياء
جدول المحتويات
يقول أمير المؤمنين × : ((أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ [ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ] وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً))[1]
سلبوه حقّه الإلهي!
إنّها الخلافة الإلهية التي فُصّلت بمقاس أمير المؤمنين (ع)، فلا تليق لغيره، ولا يصلح لها إلا هو. فهي هبة السماء، وعطيّة الإله للعباد، ونور أرسله الله لهداية سالكي طريق الرشاد… وعليٌّ قُطب رحى هذه الأمّة، ومشيّد الدّين ومثبت أركانه، بفدائه وتضحياته، وشجاعته وسخائه، فدى الدين والإسلام منذ كان طفلاً صغيراً، حتى صار كهلاً كبيراً ! إنّه الثقل الذي به عُرف الكتاب، وبه عُرف، فلم يلحقه سابق ولم يقدر على مجاراته لاحق ولكن لِمَ تقدّم عليه من تقدم؟!
يقول أمير المؤمنين (ع) : ((فَاعْلَمْ أَمَّا الِاسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ وَ نَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً وَ الْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ ’ نَوْطاً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَ الْحَكَمُ اللَّهُ وَ الْمَعْوَدُ إِلَيْهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [الْقِيَامَةُ]))[2]
علي.. وما أدراك ما علي (ع) !!
إنّه عليٌّ (ع) في علمه وحلمه وكرمه وجوده وشجاعته وزهده، وورعه وتقواه!
إنّه عليٌّ (ع) قمّة كل كمال ورأس كل خير، نبع الكوثر وماء السلسبيل ومزاج تسنيم الذي يشرب منه المقربون!
إنّه عليٌّ (ع) الذي أرتقى في العلياء حتى عجزت الطيور عن التحليق في سماءه، وتسامى حتى يأس كل جناح من الطيار في فضاء كماله.
نعم، إنه علي الذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير.
أبناء الدنيا أعداء علي.
ولكن أبناء الدنيا واللاهثين وراء حطامها، المغرورين بمتعها والمخدوعين بزينتها والطامعين في العلو والرفعة فيها حسدوه، وأبغضوه وعادوه؛ فسلبوه ما وهبه الله إياه، ونهبوا ما وضعه الله عليه، سلبوه الخلافة وأبعدوها عنه، وأبعدوه عنها، وهم يعلمون من هو، وأنّه الأحق بها، وأنّه لا حق لغيره فيها ((أَرَى تُرَاثِي نَهْباً)).
فهم علم بكل ذلك ولكن {وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا} [3]، فقد كان طلبهم للعلو وعيشهم في ظلمات الظلم، وسعيهم في الافساد وهتك المقدسات، كل ذلك كان سبباً يمنعهم من العمل بما يستيقنون، فبينهم وبين الموعضة حجاب من الغرّة! وكيف يُقدّمونَ عليّاً وفي ذلك زوال محبوبتهم الدنيا ومعشوقتهم الغرور؟!
حب الدنيا أعمى قلوبهم!
أبعدوا علياً (ع) عن علم وعمدٍ، لا عن جهل بمقامه وحقّه، ولا عن لبس في شأنه ومكانه، وإنما أبعدوه ليحققوا ما يصبون إليه، ويحصلوا على ما كانوا يخططون للوصول إليه؛ سعوا للدنيا من بداية إسلامه، وها هي الدنيا بلباس الخلافة قد جائتهم، وها هي الآن في متناول أيديهم، فكيف لهم أن يتركوها وأنّا لهم بفراقها؟!
لقد أنقضّوا على الخلافة وتقاسموا ضرع متعها، وتركوا صاحبها حبيس الدار، وتقدم المفضول على الفاضل – إن كان يملك أحدٌ منهم فضلاً-، ولعبوا بمقدرات الأمّة، وعاثوا فيها فساداً: يحدوهم الجهل، ويسوقهم الحقد على الإسلام ويقودهم العداء لأمير المؤمنين (ع).
بين الثورة والدار !
وما عسى الأمير أن يفعل بعد أن سلبوه حقّه وتعاضدوا على حربه، وتناهبوا أرثه؟!
فهل يقوم بالثورة والحرب ضد من سلبه حقه الإلهي فيناجزهم القتال، ولا يقبل بما آلت إليه الأحداث؟ أو أنّه يصبر ويتحمل مثل هذا الوضع المرير حيث أن الجلوس والصبر اليوم خير من الثورة والقيام، يقول أمير المؤمنين × وهو يبين شدّة الأمر وصعوبة الخيارات ((فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ الَّتِي وَ اللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ))[4]
لم يحن وقت القيام !
هل يثور؟ وبمن يثور؟! إنّه لا يملك ناصر ولا معيناً! فهل يقوم بنفسه وبخاصة أهله وصحبه، فيذهب ويذهبون، فتخلوا الأرض منهم جميعاً! وهل من الصلاح أن يذهب شهيداً في مثل هذا الظرف الحساس، والإسلام في أمسّ الحاجة إليه، حيث إن الإسلام لم يُبيّن بتفاصيله،إلا له، فهو محتاج إلى بيانه، و شرحه و تفصيله و تفسيره ، ولا يقوم بهذا المهمّه إلا هو !
واذا ذهب ورحل شهيداً:فمن للإسلام والمسلمين ؟ فهل من المناسب أن يقوم بالثورة اليوم و الحال أن الإسلام مازال فتياً لم يشتد عوده ، ورخواً لم يقو غُصنه، وقد قلّ أنصاره و كثر أعداؤه ؟! وهل يفعل فعلاً تكون عاقبته نهايه الأسلام ، وهو الذي أقامه وشيد بنيانه، وهل يحرّك ساكناً فيكون سبباً في زواله وهو الذي ثبت أركانه ؟!
نعم ، لا حكمه اليوم في الثورة و القيام ، مع عدم وجود الأنصار و الأعوان ، وعدم أوان الأوان !! يقول أمير المؤمنين ( ع ) : (( وَ مُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ))[5].
صبرٌ على الطخية العمياء !
لا ثورةٌ و لا قيام ، فصبرٌ على عجاف السنين و مرارة الأيام و تحمّل للطخية العمياء و الظلمة الدكناء التي لا يهتدي في غيابها إلا القليل و يتيه فيها الكثير الكثير ! هكذا كانت فترة الغاصبين الثلاثة حيث أظلم الطريق على السالكين ، و طالت فيها المحنة حتى هرم الكبير و شاب فيها الصغير ، و تمرمر فيها المؤمنون و كدحوا حتى لاقوا ربهم محتسبين !
صبرٌ يكسف أهل النفاق !
صبر الأمير (ع) و ما أعظم صبره و ما أعجب تحمله ! صبر و تحَّمل ؛ لأن الصبر كان أولى و تحمَّل لما كان ذلك عين الحكمة و الحجى، فبهذا الصبر الجميل و تجشّم العناء المرير أمكن كشف أقنعة أهل البغي و النفاق و ثم التعرف على أهل الضلال و الشقاء و عرف المخادعون و المتملقون و بانت معالم أهل الحق و تمايزهم عن أهل الباطل …
و إن احتاج ذلك مرور الأعوام و السنين ؛ حيث كان النفاق خفيّاً و مكائد أهله غير جلية !
صبرٌ فيه قذى و شجى !
صبر الأمير (ع) و لكن بعينٍ قد ألم قذاها و بحلقٍ قد أوجع الشجى حياة مكابد غصصها من مصائب مهولة و خطوب فادحة مروعة !
و كيف لا تقذى و لا يشجى .. و هو يرى كيف تُدار الخلافة بالجهل و الجهالات و الإعراض عن القيم الإلهية و العمل بالقيم اللادينية ، بأيدي رجالٍ قد مرضت قلوبها و تعفّنت فأزكمت الأنوف النّقية و القلوب الزكية !
كيف لا تقذى و لا يشجى .. و هو يرى تراثه الرباني و حقه الإلهي يتلاعب به أبناء الدنيا حيث ضلوا و أضلوا و زاغوا و انحرفوا !
كيف لا يقذى و لا يشجى .. و هو يرى كيف يسلكون بالناس إلى الجحيم و يسلبوهم سعادة الدارين، كل ذلك جراء أطماع حزب فاسق منافق قد استغل جهل الناس و تسلّق على أكتاف الفقراء و العباد فعاث في الأرض الفساد !
يقول أمير المؤمنين (ع) : (( فَلَمَّا مَضَى ’ ع تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ’ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَ لَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ [بِيَدِي] يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ص فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ- [وَ] أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَ زَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَ تَنَهْنَه “[6]
السقيفة أساس كل ظلم و انحراف !
فبـ (السقيفة) تمّ إقصاء الوصي الشرعي عن مقامه ، و هُحم على داره ، و اضرمت النّار بباب فاطمة (ع) و عُصٍرَت ما بين الحائط و الباب … فكانت فاتحة كل الجسارات على أهل البيت q !
و بـ( السقيفة ) ضيقوا على أهل البيت ( ع ) اجتماعياً و سياسياً و اقتصادياً فلم يطيقوا بكاءها على أبيها ، و أخذوا منها فدكاً نحلة أبيها ، كما منعوا بني هاشم الخمس إمعاناً في أذية بعلها و بنيها !
و بـ( السقيفة ) مُنع بني هاشم من تولي أية مناصب حكومية !
و بـ(السقيفة) بُسطَت يد الأمويين في تولي المناصب الحكومية ، حيث شكلت نسبتهم في حكومة أبي بكر حوالي الثلث !
و بـ(السقيفة) أنتعشت روح القبلية بعد أن أخمدها الإسلام بتعاليمه الرفيعة السامية !
و بـ(السقيفة) تمت محاصرة السنّة النبوية علناً بعدما أن كانوا ينهون عن ذلك سراً ؛ حتى قالها الأول ” فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً “[7] ، كل ذلك تحت غطاء خشية انتشار الاختلاف في الأمة !
و بـ(السقيفة) نشأت حالة الشلل النفسي في الأمة ؛ حيث اعتزل جُلّ الأنصار و بعض المهاجرين اعتراضاً على نتيجة السقيفة و ندماً على التفريط بحق الإمام علي(ع)، و لم تكن عندهم الإرادة على النهوض عندما دعاهم للنصرة ! و هذا الشلل النفسي تراكم في الأمة حتى انقلبت الرؤية و انتكسرا فرأوا الباطل حقاً و الحق باطلاً !! [8]
[1]نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 48
[2] نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 231
[3] النمل : 14
[5] نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 52
[6] نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 451 “الكتاب 62 و من كتاب له (ع) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر [رحمه الله] لما ولاه إمارتها”
[7] روى الذّهبيّ أنّ أبا بكر جمع النّاس بعد وفاة نبيّهم، فقال: «إنّكم تحدّثون عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله- أحاديث تختلفون فيها، و النّاس بعدكم أشدّ اختلافا، فلا تحدّثوا عن رسول اللّه شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا و بينكم كتاب اللّه فاستحلّوا حلاله و حرّموا حرامه» تذكرة الحفاظ بترجمة أبي بكر 1/ 2- 3.
[8] لاحظ: مع الركب الحسيني ج1، ص 92-101