أمواج الفتن و سفن النجاة
جدول المحتويات
خداع أعداء علي ( ع ) !
” عندما تم أمر البيعة – في سقيفة بني ساعدة – لأبي بكر ، أراد أبو سفيان أن يوقع الحرب بين المسلمين و يقتل بعضهم بعضاً، فيكون ذلك دماراً للدّين و ذهاباً لشوكة المسلمين ! فمضى إلى العباس – عم الرسول ’ – فقال له : يا أبا الفضل إن هؤلاء القوم ذهبوا بهذا الأمر من بني هاشم، و جعلوه بني تميم، و إنه ليحكم فينا غداً هذا الفظ الغليظ من بني عديّ ! فقم بنا حتى ندخل على علي (ع) و نبايعه بالخلافة و أنت عم رسول الله ’ و أنا رجل مقبول القول في قريش ، فإذا دافعونا عن ذلك : قاتلناهم و قتلناهم !!”[1]
و عليٌ ( ع ) ينظر و يسمع !
و عليٌ ( ع ) ينظر و يسمع ، و يتأمل في هذه النصرة التي جاءته، و هو في أمس الحاجة إلى الناصر !
و ها قد جاءه رجلان نافذان قويان مسموعة كلمتهم مطاعاً أمرهم: إنّهما العباس و أبو سفيان، جاءاه معلنين الرفض للأول و الثاني، و مصرّين على أنّه الأحق في الخلافة الإليه و لبني هاشم !
فهل يقبل الأمير (ع) بهذه النصرة فيثور على الغاصبين ؟!
كلا ، لأنّه علي (ع) و هو يعرف من هو أبو سفيان عدو الإسلام اللّدود الذي لم يُسلم و إنّما استسلم و نافق و هو لا يريد خيراً من هذه النصرة و لا يبغي أن يرجع الحق إلى أهله و هو لا يُكنّ حباً لعلي (ع) و لا لبني هاشم حتى يأتي لنصرتهم ، و إنّما أراد من هذه النّصرة الخديعة و إيقاع المسلمين في الفتنة !
الأعداء و استغلال المواقف !
و هكذا الأعداء، يستغلّون مثل هذه الظروف الحالكة في الظلمات الكالحة على الطرقات الوعرة حيث يقل النّاصر فيعرضون النصرة و تشتد الظلمة فيأتون بالشمعة و ينتشر الظلم فيثورون اعتراضاً على الظلمة!
و الأمير (ع) يحذِّر من أمثال هؤلاء المخادعين الذين لا يريدون رفع ظلم و لا إضاءة طريق و لا نصرة مظلوم ! و إنما يريدون أن يحققوا أهدافهم و يحصلوا على دنياهم و يفرقوا الأهل و يشتتوا الشمل و تشب الحرب و يقع القتل … فلا أمن و لا أمان و لا بر أمان بل رجوع إلى الجاهلية الظلماء !!
سُفُنُ النّجاة من الفتن !
إن حركة الفتن في المجتمعات مشابهة للأمواج المتلاطمة في المحيطات فكما أنّ الأمواج المتلاطمةتسبب الهلاك و الفناء للخائضين فيها كذلك الفتن تسبب الهلاك للواقعين في شراكها و حبالها!
و كلما أنّ النجاة من تلك الأمواج الهائجة يكون بالسّفن القوية و المحصنة القادرة على مواجهة تلك الأمواج العاتية، كذلك يكون النجاة من الفتن الإجتماعية و السياسية بركوب سفن النجاة فيها، و هي:
- الصبرعلى الفتن حتى يخبو هيجانها.
- أو المداراة حتى تخف أمواجها.
- أو المهادنة حتى تذهب بجنونها.
فبهذه السفن يتوصَّل إلى السلامة !
عرِّجوا عن طريق المنافرة !
و في مثل الظروف الخانقة ، و الليالي المظلمة ، و الطرق الوعرة ، و التي لا يستطيع أكثر الناس أن يُشخّصُوا الحق و هديه و الباطل و غيّه، و يُعرف الحق و أهله و الباطل و حزبه، و مع قلّة الأنصار و عدم إحراز الانتصار ، و عدم مواءمة الأحوال، فإنّه لا ينبغي إبراز المنافرة و العداوة، و لا الحرب و الاحتراب في المجتمع الواحد، بل لابُدّ من الابتعاد – قدر الإمكان – عن أي شيء يسبب المنافرة والشجار و المخالفة.
و هذه سفينة من سفن النجاة !
ضعوا تيجان المفاخرة !
و في ظروف الفتنة لا ينبغي أن يُحّرك في المجتمع ما يكون سبباً لتهييج الأضغان و مُوجباً لإثارة الأحقاد و عاملاً في زيارة أوار الافتتان، كالتفاخر و الانتساب بالعشائر و الأقوام؛ فالإسلام لا يرفع عشيرةً على عشيرةٍ و لا قوماً على قوم، و لا يرى فضلاً لأحد على أحد و لا جماعة على جماعة إلا بالتقوى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ}[2] .
و بالتقوى : يُصلح ما فسد من أمر العباد و البلاد ، لا بمثل هذه الأمور التي تزيد الأمور سوءاً ، و الظلمة عتمة ، و الجرح نزفاً.
و هذه سفينة أخرى من سفن النجاة !
انهض بجناح أو صبر الأرواح !
فالمفاخرة و المنافرة لا تنفعان في الوصول إلى الحق المسلوب، و لا استرجاع ما نهبه السارقون، و إنّما الطريق المعقول و المنهج المحمود لذلك:
- إمّا القيام و الثورة، و ذلك عند وجود الأنصار و الأعوان، و عند توفر جميع وسائل القدرة و الاقتدار.
- و إمّا الصبر و السكوت و عدم تحريك الأمور عند عدم توفر الأعوان.
فهذان طريقان الفوز و الفلاح: فإما أن تكون ذا جناح فتنهض به فتفوز بالمطلب، و إلا فالاستسلام و الانقياد حتى تنجو و تريح نفسك و من معك من تعب المطلب.
و هذه سفينة ثالثة من سفن النجاة !
الخلافة للدنيا ؟!
و الخلافة بعد رحيل رسول الله ’ و ما لازم ذلك من أحداث السقيفة : كالماء الآجن، و الّلقمة التي يغصّ بها آكلها ؛ كيف لا ، و الخلافة من أعظم أسباب الدنيا لمن يجعلها مطية لأهوائه و شهواته ، و معبراً لتحقيق آماله و نزواته !
و الدنيا و إن عظمت في عين طالبها و من وقع في أسرها و رقّها، و إلا أنها صغيرة في عين عليٌّ (ع) ينفر من الدنيا لتعفّنها، و هو زاهد في هذه الخلافة التي سال عليها لعاب أبنائها، فلم يكن (ع) ليستعظم أمرها أو يلهث ورائها أو يتجهّز للدخول في حرب من أجلها !
فإن كانت الخلافة لأجل الحصول على متع الدنيا ، كما تريد يا أبا سفيان ، فابحث عن غير علي يشاركك في هذا الهم و المسعى، و فتّش عن غير علي يلهث وراءها و يسكر لزخرفها و يطرب لزبرجها !
يقول أمير المؤمنين (ع) : ((أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ وَ ضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ هَذَا مَاءٌ آجِنٌ وَ لُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا وَ مُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ.))[3]
الموقف عند الفتنة !
فـ” ربما” يتّسِم الحدث بالفتنة، أي :
- عدم تماير الحق عن الباطل.
- أو أن الحق واضح دون أن يتمكن طرفٌ من إثبات حقانيته كاملةً و بطلان الطرف المقابل.
- أو أن الحق جليّ غير أن اتخاذ الموقف يصبح سبباً في سوء الاستغلال من قبل أنصار الباطل !
فيتعين هنا اتخاذ موقف الحياد في مثل هذه الأزمات الاجتماعية و السياسية.
يقول (ع) : ((كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لَا ضَرْعٌ فَيُحْلَب.))[4]
أي عليك في مثل هذه الحوادث العمل بحيث تقطع الطريق على كلا الطرفين من استغلالك.[5]
الحزب الأموي و حزب السلطة !
دخل (الأمويون) الإسلام مقهورين بالفتح، و أعينهم تراقب مجرى الأحداث لعلّ الأمر بعد رسول الله ’ ينحرف عن مساره المرسوم فيرجع القهقري، و يتجدد لهم الأمل و الرجاء في أن يعود لهم سابق شأنهم في الجاهلية ، فيمتطون صهوة الزعامة من جديد و لكن بثوبها الإسلامي !
و قد عبر ” أبو سفيان ” عن هذا الرجاء – في محضر عثمان – قائلاً : ” يا معشر بني أمية ، إن الخلافة صارت في تيم وعدي حتى طعمت فيها، و قد صارت إليكم فلتقفوها بينكم تلقف الكرة، فوالله ما من جنة ولا نار ” [6]!
دخل الأمويون الإسلام ظاهراً بعقلية (الحزب) ، و تحسّسوا في البدء الفصائل الأخرى المماثلة التي تعمل في دائرة الصد عن رسول الله ’ ؛ ليقيموا معها أواصر التعاون في ظلال الهوية الإسلامية الساترة، بعدما كانوا قد تعاونوا معها و هم تحت راية الكفر السافرة !
فقد كانت للخليفة الثاني خلوات بمعاوية منذ أوائل الأيام ! و كان معاوية يتدلل لعمر و يتملمه و إذا جاوز رضّاه في قضية من القضايا ، خاطبه بلسان المتذلل الخاضع : ” يا أمير المؤمنين علمني أمتثل ” ّ و معاوية في ذلك إنّما يمثل الدور الذي رسمه له أبوه أبو سفيان – منظّر الحزب الأموي – حين أوصاه قائلاً: ” يا بُني ، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا و تأخرنا … ، فصاروا قادة و سادة ، و صرنا أتباعاً ، و قد ولوك جسيماً من أمورهم فلا تخالفهم، فإنّك تجري إلى أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقبك”[7]
والأمويون لا يترددون في الإعتراف بأنهم أمتداد لحزب السلطة! بل هم يحاجون من ينكر عليهم قبائحهم ممن هم من نسل أبي بكر وعمر: بأنّ الأولين إن كانا قد أحسنا فإنا احتذينا بهما، وإن كانا قد اساءا فهما أولى بالذم المعابة.
والمتتبع لا يجد صعوبة في العثور على دلائل التعاون الجديد بعد أن استقرت نتائج السقيفة لصالح حركة النفاق ، وهذه الدلائل كثيرة جداً.
ولا يقدح فيها : الموقف المؤقت الذي وقفه أبو سفيان في طلبه من أمير المؤمنين (ع) في أن يمد يدّه ليبايعه ، و في تنكّره – بادئ ذي بدئ- لنتائج السقيفة، فإن هذا الموقف أملته على أبي سفيان أمنيته المكبوتة في أن يبطش بالاسلام البطشة الكبرى بعد رحلة رسول الله ’ مباشرة من خلال ايقاع الاقتتال بين المسلمين على الخلافة و إسقاط الدولة الإسلامية و إعادة الناس إلى الجاهلية و إلى قريش بزعامتها السابقة !
و لم تخف نية أبي سفيان في موقفه هذا على أمير المؤمنين (ع) فنهره و أغلظ له قائلاً : ” و الله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة ، و إنك و الله طالما بغيت للإسلام شراً … “[8]
[1] شرح نهج البلاغة ( البحراني ) 1:167 ” بتصرف .
[2] الحجرات: 13
[3] نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 52
الخطبة رقم: 5 و من [كلام] خطبة له ع لما قبض رسول الله ص و خاطبه العباس و أبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة (و ذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة، و فيها ينهى عن الفتنة و يبين عن خلقه و علمه)
[4] نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 469، حكم أمير المؤمنين عليه السلام، الحكمة رقم: 1.
[5] لاحظ ( رسالة الخواص ص 38-39 )
[6] الأغاني ج 6 ص: 356
[7] البداية والنهاية ج 8 ص 126
[8] لاحظ مع الركب الحسيني (ج 1: ص 73-83 )،
وقد ذكرت في الكامل لابن الأثير 2/ 220 تاريخ الطبريّ 3/ 209