الظالم الثاني و الحوزة الخشناء
جدول المحتويات
يقول أمير المؤمنين × : (( فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَة))[1]
هكذا يكون خليفة الرسول ( ص ) !
خليفة الرسول ’ هو الأقرب إليه في علمه و حلمه و زهده و منطقه و جمال خلقه و كمال فضائله؛ فقد كان رسول الله ’ ليّن الطبع رقيق القلب هشاً بشاً، تعلو البسمة محيّاه، و تحيى القلوب عند لُقياه، وتنجذب الأفئدة لعظم أخلاقه و جميل خصاله، كما يقول الباري جل جلاله :{ وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيم}[2].
ما كان فظّاً و لا غليظاً، و لا توجد في طباعه جفوة، و لا تسرّع إلى غضب و لا خشونة في تعامل { وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك}[3].
و هكذا ينبغي أن يكون خليفة رسول الله ’.
الطبع الجافي و القلب القاسي !
و قد ابتليت الأمّة بعد الأول بخليفة لا يتمتع بأدنى المواصفات التي تليق بمنصب خلافة المسلمين، و الجلوس على كرسي رسول رب العالمين؛ فقد كانت الطباع التي يحملها، و الاخلاق التي يتصف بها تمثل أقبح الصفات و أخس الطباع !
فقد كان جافياً غليظ الكلام ، فظّاً ينفّر عنه الأنام، تتوجس من أسلوبه كل الناس!
كان غليظ المواجهة بالكلام : يجرح به و يدمي القلوب و الأرواح؛ فقد كان ضربه باللسان أعظم من وخز السنان ! و كان جافياً لا يمكن التعايش معه و الاستئناس بمجلسه و القعود عنده؛ لما في مجالسته من اتمال الأذى و التهجس من سطوته و الطيش في فعله !!
كما يقول أمير المؤمنين × و هو يصف طباع هذا الرجل الفظ : ((فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا))[4]، و هذا وصفه على صعيد الأخلاق و الطباع و الحكمة العملية !!
كثير الأخطاء و كثير الاعتذار !
و أما على صعيد العلم و الفكر و الوعي و الحكمة النظرية، فلم يكن يملك منه شيءاً ، و قد كان متسرّعاً في إصدار الأحكام الخاطئة، ثم يُنبَّه على خطئه، فيرجع عما قال و يعتذر!
و هذا كان دأبه و هكذا جرت سيرته: كثير الأخطاء و كثير الاعتذار ! و ما أكثر أخطائه التي لو لا تدخل أمير المؤمنين × فيها لأدت إلى سفك دم أو تضييع حق أو تعذيب نفس !
فالعجب لخليفة رسول الله ’ و النّساء أفقه منه كما اعترف هو بذلك !!
و كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام و هو يبين جهل الرجل: ((وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا))[5]!!
لا الشد ينفع و لا الإسلاس يفلح !
و المصيبة العظمى: أن التعامل مع مثل هذا الرجل و الأمل في إصلاحه و العمل على تقويمه يعتبر من الأمر المحال؛ لأنّك إن قمت بتنبيهه و بيان خطئه في كل واقعة و أشرت عليه بمواضع اشتباهه و ذللت حكمه فإنه سوف يعتبرك عدواً، و ستؤول الأمور إلى حصول المشاقة و الصدام؛ فطبعه هو هكذا إن أشرت أليه و نصحته !
و إن اخترت السكوت على أخطائه و لم تنبهه بمواقع زللــه: أدّى ذلك للإخلال بالواجب و تضييع الحقوق، و وقوع الظلم على الكثير من خلق الله تعالى !! فما العمل ؟!
هل هو الاعتراض أو السكوت ؟1
إنه أمر محير … ((فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ ))[6] ، فإن شددت عليه و أصررت على الحق أدّى ذلك للخرم و التمزق و الضغينة و الشقاق بين المسلمين ! و إن أسلست له و لم تصرّ على بيان الحق أدّى ذلك للتقحّم في الهلكات و تضييع الأحكام و انتهاك الحرمات و وقوع الظلم على العباد !!
ضلّ و أضلّ و أشقى الأمّة !
فجّلت المصيبة ، و ازداد الفتق الذي لا يمكن رتقه، و الاعوجاج الذي لا يرجى استقامته ! و مُني النّاس و ابتلوا بخبط هذا الرجل و اضطراب حركاته غير المدروسة و غير الحكيمة النابعة من جهله و عدم وعيه و بعده عن الرشد في الفكر !
و عجر الناس عن التعايش معه بما يحمل من هذه الطباع الخشنة الغلظة ! و ضاع الناس بسبب ضياعه وتيهه و ضلاله في الطرقات ؛ حيث كان يقود الأمة بجهله و ضحالة فكره ، و ما يميله عليه طبعه … ((فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ ))[7].
عشر سنواتٍ مُظلمة !
فصبر الأمير × عليه كما صبر على الأوّل، حيث لم يكن يملك شيئاً في الصبر ، نعم كان بلاءً عظيماً ومحننة شديدة: طالت فيه خلافة عشر سنين فلم يبق من الأحكام شيئاً إلا و دس فيها سمّه الزعاف، و كثرت اجتهاداته في قبال نصوص الإله و رسول العباد، فغيّر الكثير الكثير حتى أنّت منه شريعة السماء!
طالت المدة و اشتدّت المحنة في فترة خلافته التي تعد من أظلم العقود و أخطر السنين التي مرّت على الأمّة الإسلامية حتى أنّه أبعد خُلّص الصحابة و قرّب اليهود و مكّنهم في مسجد الرسول ’ ليبثّوا في الدين أكاذيبهم و إسرائيلياتهم، بعد أن منع كتابة و انتشار أحاديث الرسول ’ !
و الأفجع في كل فعاله أنه مكّن بني أمية و أطلق العناء للطليق ابن الطلقاء معاوية بن أبي سفيان ليضمن دوام خط النفاق و ليطمئن و هو في قبره بأن راية الضلال لن تخبو و راية الإسلام لن تعلو !!
يقول أمير المؤمنين عليه السلام : ((فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَة))[8]
الثاني و خيوط المؤامرات !
فـ(الثاني) هو الذي أطلق يد معاوية في الشام؛ فالخليفة الصارم في المدينة قد أغمض عينه عمداً عن الشام لفتى قريش و كسرى العرب!
فـلذا كان (الثاني) هو الممهد للحكم الأموي بل هو المؤسس له !
و في فترة حكمه زاد في شدّة الحصار المضروب على السنة النبوية؛ فأمر بحرق ما أتوه من بيانات نبوية و فرض الإقامة الجبرية على رواة الأحاديث في المدينة و منع الجيوش عن التحديث عن رسول البرية!
و هو في نفس الوقت قد قرّب منافقي اليهود و النصارى و فتح لهم الأبواب ليمارسوا القّص على الناس بما يعارض عقائد الإسلام !
و قرّب منه كعب الأحبار – أكبر زعماء اليهود – يأنس به و يستشيره و يتأثّر بفكره، و يعود إليه في القضايا التي لا تروقه أجوبة العلماء من الصحابة فيها فيسأله عنها !
و كان أكثر ولاته من بني أمية في الوقت الذي منع فيه الهاشميين من أن يستلموا أي منصب ! فضلاً عن مبدئه في العطاء و ما جرّ على الأمة من مآسي و أهوال ![9]
[1] نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 48
الخطبة (3) و من خطبة له ع و هي المعروفة بالشقشقية و تشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له!
[2] القلم: 4 .
[3] آل عمران: 159 .
[4] المصدر السابق.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.
[7] المصدر نفسه.
[8] المصدر نفسه.
[9] لاحظ مع الركب الحسيني ج1، ص 25 -81