بحث حول النفاق في صدر الإسلام
جدول المحتويات
تمهيد …
” لقد اهتّم القرآن بأمر (المنافقين) اهتماماً بالغاً، وقد كرّ عليهم كرّاتٍ عنيفة، وذلك: بذكر مساوي أخلاقهم وأكاذيبهم و خداعهم و دسائسهم و الفتن التي أقاموها على النبي (صل الله عليه وآله) وعلى المسلمين. وقد تكرر ذكرهم في السور القرآنية : كسورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء والمائدة، والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب و الفتح و الحديد و الحشر و المنافقون و التحريم”[1]
تعريف النفاق …
” النفاق: هو استظهار الإيمان و استبطان الكفر والتّستر عليه، فالمنافق هو الإنسان الذي يستبطن الكفر ويستره ويستظهر الإيمان، وهو مصطلح إسلامي لم تعرفه العرب قبل الإسلام بالمعنى المخصوص به، وإن كان أصله في اللغة معروفاً “[2]
ففي المفردات : ” النفاق هو الدخول في الشرع من بابٍ و الخروج عنه من باب و على ذلك نبّه بقوله {إن المنافقين هم الفاسقون}[3] ، أي الخارجون من الشرع.[4]
المنافقون و الوعيد الإلهي …
“و قد أوعدهم الله في كلامه أشد الوعيد:
- ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وأبصارهم، وإذهاب نورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون!
- و في الآخرة يجعلهم في الدرك الأسفل من النار.[5]يقول تعالى { إِنَّ الْمُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصيراً}[6]
المنافقون … أشد أعداء الدين !
إنّ هذا الوعيد الرباني والتهديد السماوي بحق المنافقين سببه: ” شدّة المصائب و البلايا والمحن التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم؛ فلم ينل المشركون و اليهود و النصارى من دين الله كما ناله من المنافقين !”[7]
فقد كانوا الأشد خطراً و الأكثر فتكاً والأمضى سيفاً والأدمى جراحاً على الإسلام و المسلمين، ويكفي للإشارة إلى شدّة عداوتهم و ضرورة الحذر منهم قوله تعالى { هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}[8]، و كأنّه لا عدو إلا هم ولا عداوة إلا التي تصدر منهم!
المنافقون … و صورٌ من كيدهم و إفسادهم !
” لقد ظهرت آثار دسائسهم و مكائدهم وأراجيفهم في أوائل سِنيّ هجرة النبي (صل الله عليه وآله) إلى المدينة حيث انسلّوا يوم أحد من الجند الإسلامي وقد كانوا يمثلون الثلث تقريباً، وعقدوا الحلف مع اليهود واستنهضوهم على المسملين، و بنو مسجد ضرار، و أشاعوا حديث الإفك ….. إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات القرآنية.
حتى بلغ أمرهم في الإفساد و تقليب الأمور على النبي (صل الله عليه وآله) إلى حيث هددهم الله تعالى بمثل قوله { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فيها إِلاَّ قَليلا}[9]“[10]
متى بدأت حركة النّفاق ؟!
يوجد رأيان في المقام بالنسبة لـ”بدأ حركة النفاق” :
- الرأي الأول: يرى بأنّ حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة المنورة وأنّها استمرت إلى قرب وفاة النبي (صل الله عليه وآله) و بوفاته تنتهي حركة النفاق، فهذا الرأي لا يرى لحركة النّفاق أي وجود قبل دخول الإسلام المدينة المنورة ولا أي استمرار لها بعد وفاة النبي (صل الله عليه وآله).
- الرأي الثاني: يرى بأنّ حركة النفاق بدأت ببدأ الإسلام و حصلت قبل الهجرة عندما كان المسلمون في مكّة، و أنّها استمرت حتى إلى بعد وفاة النبي محمد (صل الله عليه وآله).
و الصحيح أن حركة النفاق بدأت ببدأ الدعوة و أن النفاق قد دبّ في أتباع الإسلام بمكة و قبل الهجرة و هذا ما تثبته الحوادث التاريخية الحاصلة في زمن النبي (صل الله عليه وآله) وكذا عند التأمل والإمعان في الحوادث الواقعة بعد رحيله !
مضافاً إلى ملاحظة طبيعة المجتمع و قوانينه وسنته الفعالة: التي تقضي بكون حركة النفاق حادثة قبل الهجرة الشريفة وأنّها مستمرة إلى ما بعد رحيله كما سيتضح ذلك قريباً.
استدلال القائلين بأن حركة النفاق قد بدأت بعد الهجرة …
و قد أقام أصحاب الرأي الأول – القائلين بأن حركة النفاق قد بدأت بدخول الرسول الأكرم (صل الله عليه وآله) المدينة المنورة، و أنها استمرت إلى قرب وفاته – دليلاً على ذلك ، حاصله : ” أنّ النبي (صل الله عليه وآله) و المسلمين بمكة وقبل الهجرة لم يكونوا من القوّة و نفوذ الأمر و سعة الطَول، بحيث يهابهم الناس و يتقهم، أو يرجوا منهم خيراً حتى يظهروا لهم الإيمان ظاهراً، و يتقربوا منهم بالإسلام حيث كان المسلمون مضطهدين و معذبين بأيدي صناديد قريش ومشركي مكة المعادين لهم المعاندين للحق !
فلا يتصور – في مثل هذه الفترة الزمانية – وجود منافقين بين المسلمين، وذلك لعدم وجود المقتضي لذلك – و هو الخوف – و انتفاء الداعي و المبرر للنفاق!
نعم، بعد أن هاجر النبي (صل الله عليه وآله) إلى المدينة المنورة، وبعد أن كسب أنصاراً من الأوس و الخزرج، وبعد أن استوثق من أقوياء رجالهم: أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن انفسهم و أهليهم .
و مع ملاحظة دخول الإسلام في بيوت عامتهم، فكان مستظهراً بهم على العدّةِ القليلة التي لم تؤمن به وبقيت على الشرك …..
فمع ملاحظة كل هذه الأمور: يُتصور بروز حركة النفاق ووجود المنافقين بين صفوف المسلمين في مثل هذه الفترة الزمانية وبعد الهجرة النّبوية؛ حيث لم يسع البعض أن يعلنوا مخالفتهم للإسلام ويظهروا شركهم؛ لأن مثل هذا الأمر سيسبب لهم الضرر و لحوق الشر بهم !
فتوقّوا مثل هذا الشر بإظهار الإسلام فآمنوا به ظاهراً و هم على كفرهم باطناً، فدسّوا الدسائس و مكروا ما مكروا “[11].
و الحاصل : ” إن هذا الرأي يعتمد على (عامل الخوف) من شوكة الإسلام و المسلمين وسطوتهم فقط، كدافع يدفع (الكافر حقيقة) أن ينافق، فيستظهر الإيمان بدخول الإسلام و يستبطن الكفر!
و هذا الحصر يؤدي بالضرورة إلى القول: بأن النّفاق لا يكون في الوسط الإسلامي إلا حيث تكون للإسلام شوكة و حاكمية و غلبة “[12].
استدلال القائلين بأن حركة النفاق قد بدأت قبل الهجرة …
و أما أصحاب الرأي الثاني – القائلين بأن حركة النفاق قد بدأت قبل الهجرة – فهم يجيبون على أصحاب الرأي الأول: بأنّ دواعي النفاق و أسبابه لا تنحصر بالأمر الذي ذكروه و استدلوا به على قولهم، حيث أنه متى ما انتفى هذا الداعي و السبب فإنه سوف ينتفي النفاق! بل هناك دواعي و أسباب متعددة للنفاق – و ما ذكروه و هو عامل الخوف هو أحدها – توجب حصول هذه الحركة في المجتمع، و بيان هذا الإجمال سيتضح عندما نبين دواعي النفاق المتعددة بشكل تفصيلي.
الدواعي و الأسباب المختلفة للنفاق …
توجد عّدة دواعي و أسباب لوجود حركة النفاق و اتّصاف البعض بهذه الرذيلة الشنيعة، ونحن نذكر في المقام بعضاً منها:[13]
- الخوف من الموت: فهناك من ادّعى الإسلام و الإيمان خوفاً من الموت، كما هو حال كفّار مكة و مَن والاها، وخاصّة صناديد قريش؛ فإنّهم ما كانوا ليؤمنوا بالنبي (صل الله عليه وآله) لولا سواد جنودٍ غشيتهم، و برق سيوف سُلّطت على رؤوسهم يوم الفتح !! فهل يُقال – و الظرف هذا الظرف- : بأنّه حدث في قلوبهم الإيمان، وفي نفوسهم الإخلاص واليقين، فآمنوا بالله تعالى طوعاً عن آخرهم، و لم يدب فيهم دبيب النفاق أصلاً ؟!
- الارتياب في الدين و كتم ذلك: و هناك من دخل الإسلام ثم ارتاب في دينه وارتدّ، و لم يُبرز هذا الأمر بل كتم ارتداده وبقي على تظاهره بالإسلام كما تلمح له بعض الآيات، كقوله تعالى {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}[14]، وكقوله تعالى { يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرين}[15]. و قد يحصل الارتياب خلال طريق المعاناة: نتيجة هزّات عُظمى و صدمات كبرى أو شبهات مضلّة.
- التخريب من الداخل: فهناك من يستظهر الإيمان ويستر الكفر من أجل أن يتمكن من تقليب الأمور وإفساد المجتمع الديني من الداخل، وتضعيفه بأيدٍ خفيّة غادرة، فالكيد بالدين من الداخل أوجع وأمضى من الكيد به من الخارج في كثير من الأحيان!
و مَن يقوم بهذا العمل: لا يصيبه أذىً من الكفار و الأعداء الخارجيين غالباً! بل في كثير من الأحيان : يكون هناك تعاون و تنسيق خفي و سري بينهما، حيث يتفقان على هدف مشترك: وهو القضاء على الدّين!
و هذا الطابور الخامس و العدو الداخلي ، قد أثبتت التجارب أنّه من أخطر الأعداء و أصعبها في المقاومة، و أكثرها إيجاعاً و إفساداً ! “و لهذا الصنف أنواع؛ فمنهم من يطمع الوصول إلى موقع معنوي في قلوب الحكام أو في قلوب المسلمين من أجل التخريب من الداخل! و مصداق ذلك: الذين دسّهم أهل الكتب في الصف الإسلامي، مثل: كعب الأحبار اليهودي وتميم الداري النصراني “[16]
- النفاق من أجل الزعامة الدينية : و هناك من يُظهر الإيمان و يخفي الكفر من أجل البلوغ لأطماعه وأمانيه، و هي التقدم و الرئاسة و الاستعلاء و السيطرة؛ إشباعاً للنزعة السلطوية في النفس!
وهؤلاء لا يقومون بتغليب الأمور و تربص الدوائر على الإسلام و المسلمين و إفساد المجتمع الديني، بل يسعون لتقويته و تغذيته بالمال و الجاه؛ وذلك لكي تنتظم الأمور و تتهيأ الأرضية لهم كي يستفيدوا من الدين و يستدروا به منافعهم الشخصية، و ذلك بعد أن يتسنموا سدّة الرئاسة أو يكونوا من الوجهاء في الدين !!
و هذا الصنف من المنافقين – و قد سمعوا النبي محمد (صل الله عليه وآله) يذكر في دعوته لقومه : أن لو آمنوا به و اتبعوه كانوا ملوك الأرض – لا يعبؤن بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، بل هم على أتم الاستعداد لتحمل المخاطر، والصبر على البلايا و تجرّع الغصص و ملاقاة المحن؛ رجاء أن يوفقوا يوماً للحصول على مرامهم: وهو التّحكم على الناس و استقلالهم بإدارة رحى المجتمع !
و من مميزات هذا الصنف من المنافقين: أنّهم يحرصون في العادة – على مصالح الإسلام ما دامت تتوافق مع مصالحهم المنشودة-.
نعم، قد يبرز منهم شيء من المخالفة و المضادة للدين: عندما يكون الدين صادّاً لأمانيهم ومانعاً لأطماعهم وتقدمهم وتسلّطهم! فيقومون بالمكر والخداع والقيام بأمور تنتهي إلى أغراضهم الفسادة: باختلاق الأكاذيب و الافتراء على الشرع و الدين ![17]
والحاصل: ” أن عامل (الطمع) – الطمع في مستقبل الإسلام – كان دافعاً قويّاً لمثل هؤلاء المنافقين، وهذا العامل – الطمع – لم يكن وليد المدينة المنورة، بل كان مع الإسلام منذ أول أيامه في مكة المكرمة؛ إذ كان في العرب رجالٌ أهل خبرة ومعرفة بحقائق السنن الاجتماعية، وسنن الصراع و قراءة المستقبل ! فكانوا يعرفون أن دعوة هذا النبي (صل الله عليه وآله) المستضعف في مكة آنئذٍ، هي التي تنتصر وأنّ كلمة هذا النبي (صل الله عليه وآله)ستكون هي الكلمة العليا”[18]
“وكما كان في العرب أذكياء توسّموا – منذ البدء – أن هذا الدين سيكون له شأن عظيم في المستقبل، كذلك كان هناك في العرب رجال لهم علاقات وطيدة باليهود و النصارى الذين كانوا يتوارثون أخبار الملاحم والفتن وأنباء المستقبل، ويُخبرون النّاس أن عصرهم آنئذٍ عصر ظهور النبي الخاتم (صل الله عليه وآله) ! بل كانوا يعرفون النبي (صل الله عليه وآله) بصفاته البدنية والمعنوية معرفة يقينية {الَّذينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُم}[19]، و كانوا يحدّثون الناس : بأنّه هو الرسول الخاتم الفاتح (صل الله عليه وآله) ! فلما آن أوان ظهوره، أخبروا بعض العرب بذلك، و أكدّوا لهم: أنّ المستقبل لهذا النبي (صل الله عليه وآله) و لدعوته الجديدة !
لقد كان النظر إلى (مستقبل هذا الدين) دافعاً قوياً إلى الانضواء تحت رايته و الانتماء إليه ! و كان أكثر العرب – في قضايا العقائد و مستقبل الأحداث – يعتمدون رأي أهل الكتاب “[20].
- النفعيون و أصحاب المطامع : ” و هناك من يطمع في الوصول إلى أهداف و غايات أخرى أقل أهمية من الحصول على الرئاسة و الزعامة، كالحصول على مغانم أوتنمية مصالحه وتوسعتها في ظل نماء مصالح الإسلام! أو انتصاراً لحميّة أو غير ذلك “[21].
و الحاصل من كل ما تقدم: ” أن حركة النفاق لم تبدأت بدخول الرسول الأكرم (صل الله عليه وآله) المدينة المنورة بل بدأت بدخول الصف الإسلامي منذ أوائل حياته في مكة المكرمة.
نعم ، لم تتخذ حركة النفاق شكل الظاهرة الإجتماعية الخطيرة إلا في المدينة المنورّة بعد قيام الدولة الإسلامية “[22].
نهاية حركة النفاق !
هناك نظرة مشهورة خاطئة تدعي أنّ (حركة انفاق ) قد استمرت إلى قرب وفاة النبي الأكرم (صل الله عليه وآله) وانتهت بوفاته ! و هذه الدعوى لا يصدقها التاريخ الحق ، حيث أنّه لابُدّ أن نفرّق بين أمرين:
- (أحدهما): انقطاع الأخبار عن حركة المنافقين الظاهر في مواجهة الإسلام والمسلمين، وعدم ظهور ما كان يظهر منهم من أعمال مضادّة وآثار معاكسة و مكائد ودسائس مشؤومة، وهذا أمرٌ قد حصل بعد موت النبي (صل الله عليه وآله) مباشرةً و انعقاد السقيفة و انتشار الخبر عن نتائجها، حيث اختفت هذه الحركة الهائلة عن ظاهر الحياة السياسة و الاجتماعية فجأة !
- و(الآخر): هو انتهاء هذه الحركة بالفعل و انحلالها وزوالها من خريطة العمل السياسي والاجتماعي “[23]، و هذا أمرٌ لم يحصل قطعاً؛ و الدليل عليه: أنّه بمجرد أن وصل الحق إلى أهل البيت q وجاءت الخلافة لأمير المؤمنين (عليه السلام) حتى عادت (حركة النفاق) بالتحرّك و البروز وتقليب الأمور على الإسلام والمسلمين، كما حصل في الجمل وصفّين و النهروان و غيرها من المواقف .
حركة النفاق بعد رحيل الرسول الأكرم …
من الملاحظ أنّ (حركة النفاق) قد توقّفت وانقطع خبرها برحلة الرسول (صل الله عليه وآله) وانعقاد الخلافة، وانمحى أثر المنافقين بعد ذلك، فلم يظهر منهم ما كان يظهر من المكائد و الدسائس المشؤومة ! فما هو السر في ذلك ؟
توجد عدة احتمالات:
- الاحتمال الأول: أنّ جميع أفراد حركة النفاق أو رموزها الفعالة، و أعضائها النشيطين قد أُبيدوا و قُتلوا قبل رحلة النبي (صل الله عليه وآله)، الأمر الذي يعني أنه قد تم القضاء على هذه الحركة قضاءاً مبرماً، أو أنها شُلّت نتيجة ذلك شللاً تاماً! و تاريخ السيرة النّبوية لا يصدق هذا الاحتمال، بل يرفضه رفضاً تاماً.[24]
- الاحتمال الثاني: أنّ المنافقين وُفّقوا للإسلام وأخلصوا الإيمان عن آخرهم برحلة النبي (صل الله عليه وآله)؛ حيث تأثرت قلوبهم من موته ما لم تتأثر بحياته[25]؛ فنابوا إلى الله جميعاً و أخلصوا الإيمان عن آخرهم، و حسن بذلك إسلامهم ّ. و هذا الاحتمال باطلٌ ؛ فهو أمرٌ لا يقبله العقل السليم، ولا تساعد عليه النقول التاريخية ؛ فإذا لم تتأثر قلوبهم و نفوسهم بالنبي (صل الله عليه وآله) وهو حيٌ بين ظهرانيهم، يسمعون كلامه و يرون كمال خصاله وأفعاله، فكيف يمكن أن تتأثر قلوبهم و نفوسهم بسبب وفاته بحيث يؤدي ذلك إلى أن يوفّقوا للإسلام و يتركوا النفاق و الالحاد !
مضافاً إلى وجود مجموعة من الشواهد التاريخية و التي تبرز و تكشف شيئاً من حياة هؤلاء وأقوالهم وأفعالهم : حيث تدّل على عدم إسلامهم الواقعي، و بقاؤهم على ما كانوا عليه من الكفر الباطني !
- الاحتمال الثالث: أن حركة النفاق نفسها تسلّمت زمام الأمور بعد رحلة النبي (صل الله عليه وآله) أو أنها – على الأقل – كانت قد صالحت أولياء الحكومة بعد رحلة النبي (صل الله عليه وآله) على ترك المضادة والمشاغبة، مصالحة سرية قبل الرحلة أو بعدها، بشرط أن يسمح لها تحقيق ما فيه أمنيتها !
أو أن حركة المسلمين وحركة النفاق بعد رحلة النبي (صل الله عليه وآله) و بعد السقيفة كانتا قد وقعتا في مجرى واحد و اتجاه واحد، وتصالحنا مصالحة عفوية، بلا تكلّف عهد وعقد ! فارتفع التضاد والتزاحم و المضارة و المعارضة بينهما[26].
و هذا الاحتمال هو الحق الذي لا مرية فيه؛ فإنّ الذين تصدّوا الحكومة و اغتصبوا الخلافة من أهلها يوم السقيفة: هم رأس النّفاق و حزب الشيطان؛ فالمنافقون – الذين كانوا يقبلون الأمور على الإسلام و المسلمين – هم الآن على سدّة الحكومة و الخلافة، أو هم المعاونون لهم وأصحاب النفوذ في دولتهم !
و من الحقائق التاريخية: أن الذين وصلوا إلى الخلافة (حزب السلطة) قد كانوا في تحالفات مع كفّار قريش (الحزب الأموي) و اليهود والنصارى ! مضافاً لاستغلالهم ضعف عقول الناس وعدم وعيهم لمجريات الأمور !
و الحاصل: أنّ حركة النفاق لها فصائل متعددة متنوعة في الأدوار متحدة في الهدف – و هي : حزب السلطة و الحزب الأموي و منافقوا أهل الكتاب و منافقوا أهل المدينة و المنافقون النفعيون، و هذه الأحزاب على اختلافها الظاهري، إلا أنّ كل حزب يقوم بدور معين و يتكفل بإنجاز مهمة خاصة !
و قد كان الهدف المشترك عند الكل: هو القضاء على الإسلام و جعله جسداً بلا روح و قشراً بلا لب، وتغيير أحكامه و تبديلها !
و أكبر عمل شنيع قاموا به في هذا السبيل: أن أقصوا الإمام علي (عليه السلام) و أهل بيته من سدّة الصدارة و إدارة شؤون الأمّة!
و هذه الأحزاب الشيطانية: كانت تسير في عملٍ منظّم وسرّي، فلم تكن الأمور تجري بنحو الصدفة والاتفاق، كما يحلو للبعض تصوير ذلك![27]
الخطبة الشقشقية … وثيقة تكشف أوراق النفاق !
إنّ النظر إلى الخطبة الشقشقية والتأمل في توصيف الإمام علي (عليه السلام) لمجريات الأحداث وما فيها من انقلابات و ما أنتجته من مخاضات وآفات، يؤكّد حقانية ما تقدم: أنّ حركة النفاق قد دخلت الإسلام من بدايته و هو (صل الله عليه وآله) وليد في مكّة، وأنّها استمرت إلى ما بعد وفاته، بل هي باقية ما بقي الإنسان !
و إلا فما معنى أن يُرشّح الثاني الأول للخلافة في السقيفة و من ثم يُرجع الأول الخلافة للثاني بعد ذلك؟
لا جواب مقنع إلا ما قاله الإمام (عليه السلام) : ((فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا!!))و هكذا (الحزب) يهيأ الأرضية للثالث، ولكن هذه المرة بطريقة أكثر ضبابية وأشدّ ظلمة، و كما يقول الإمام علي (عليه السلام) : ((حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي [سِتَّةٍ] جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى)) !
فهي شورى ظاهراً، إلا أن الثالث متعين حتماً !! و ما إن وصلت الخلافة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) حتى عادت (حركة النفاق) تظهر على السطح صراحاً جهاراً، و كما حارب الرسول (صل الله عليه وآله) بالأمس على التنزيل، فإن الإمام علي (عليه السلام) يحارب اليوم نفس أعداء الأمس و لكن على التأويل … ((فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ [فَسَقَ] قَسَطَ آخَرُونَ ))!!
و الحاصل: أنّ السلطة و زعامة الأمة بعد وفاة الرسول الأعظم (صل الله عليه وآله) و باستثناء فترة حكم الإمام علي (عليه السلام) قد تسلمها واستولى عليها المنافقون:
فأولاً تسلم الخلافة ثلاثة من أعضاء (حزب السلطة).
ومن ثم أوصلوا الخلافة – بتخطيط محكم مشؤوم – إلى (الحزب الأموي) وليصبح معاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين! فـ(كفّار) الأمس و (منافقوا) اليوم هم على رأس الأمة الإسلامية !
نعم ، إنّهم (أعداء الإسلام) و (قتلة المسلمين)، هم أنفسهم و لا سواهم ! و هل تغيروا ؟!
نعم ، تغيروا على مستوى الظاهر؛ فبالأمس كانوا يرتدون (ثياب الكفر) و لكنّهم اليوم يرتدون (ثياب النفاق)! و بذلك خدعوا، وتمكنوا ، وحكموا … ، و من ثم دمّروا الإسلام من الداخل!
و إنا لله و إنا إليه راجعون .
[1] تفسير الميزان ج: 19، ص:287 بتصرف
[2] مع الركب الحسيني ج:1 ص: 37
[3] التوبة : 67
[4] المفردات، ص: 656
[5] تفسير الميزان ج19 ص:288، بتصرف
[6] النساء: 145
[7] تفسير الميزان ج19، ص:288، بتصرف
[8] المنافقون: 4
[9] الأحزاب: 60
[10] تفسير الميزان ج19 ص288، بتصرف
[11] تفسير الميزان (ج 19 ص:288-289 ) بتصرف .
[12] مع الركب الحسيني ج1 ص:38 .
[13] لاحظ تفسير ” الميزان ص19 ، ص:289-290.
[14] المنافقون :3
[15] المائدة :54
[16] مع الركب الحسيني ج:1، ص:43.
[17] لاحظ تفسير انظر الميزان ج: 19 ص:289.
[18] مع الركب الحسيني ج:1 ص:38، بتصرف .
[19] البقرة: 146 ، الأنعام: 20
[20] مع الركب الحسيني ج:1، ص:39.
[21] مع الركب الحسيني ج:1، ص :43-33 ، بتصرف .
[22] مع الركب الحسيني ج:1، ص:44.
[23] مع الركب الحسيني ج:1، ص:44-45 ، بتصرف
[24] مع الركب الحسيني ص:1، ج:45، بتصرف.
[25] تفسير الميزان ج:19،ص:22، بتصرف
[26] مع الركب الحسيني ج:1، ص:46 – تفسير الميزان ج: 19، ص :29
[27] للمزيد من التفاصيل راجع: كتاب مع الركب الحسيني ج: 1 ص:35-137، المقالة الأولى : النفاق … قراءة في الهوية و النتائج .