قرآن الطف

الإمام الحسين والليلة: «وإني لا أعلم أصحابا أوفي من أصحابي، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي»

تمهيد (على أعتاب القصة)

القرآن يدعو للتأمل وأخذ العبر من أحداث التاريخ، وما وقع على الأمم الماضية و الأقوام الخالية ويذكر لنا قصة أمة كانت تعيش الضيم والقهر والحرمان من قبل طواغیت زمانهم وظلمة أوطانهم! حتی ضاقت بهم السبل وأظلمت عليهم ليالي الجور، فلم يبق لهم أمل! فقد عاش «بنو إسرائيل» بعد النبي موسی سبع سنوات طويلة، يسعدون بفيض نعم الله المادية والمعنوية. ولكن مع مرور الزمن وعندما بدأت الأجيال الجديدة بالتخلي عن الالتزام بأحكام الله، وكثرت بينهم المعاصي والآثام! سلط الله عليهم العمالقة الذين يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، واستمرت حالهم على هذا سنوات طوال حتى أرسل إليهم نبيا اسمه «اشموئيل» لإنقاذهم وهدايتهم. وتوجهوا لنبيهم يشكونه الحال، ويبثون إليه ما حل بهم من مآسي وأهوال، وطلبوا منه أن يبعث إليهم «قائدا» يسيرون في ركابه ويحاربون تحت لوائه، ويقاتلون أعدائهم وأعدائه.

ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله» البقرة/ ۲۶۹

قبل أن يجب عليكم القتال

فهذه الأمة تعيش الآن الظلم وعذاب الجور، وقد مل صبرها، ونفذ احتمالها، فطلبت من نبيها أن تقاتل عدوها، وتتخلص مما فيه من عذاب! فأراد نبيهم أن يوقظهم على حقيقة كامنة في نفوس البشر، وهي

أنهم في ساعات الشدة يطلبون المخرج، ولكن إذا فتح لهم باب الفرج، وطلب منهم الدخول فيه، إذا هم | يتراجعون ويولون الدبر! معتذرين بشتى الأعذار ومختلف الأكاذيب!

فقال لهم نبيهم: أنتم الآن في فسحة، لكن إذا أوجب عليكم من أمركم القتال – الذي هو غير واجب عليكم اليوم فلا مجال عندها للتراجع، ولا يجوز لكم التخاذل، فهل أنتم على يقين لما تطلبون وصادقون فيما ترغبون «قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا» ؟!

ولم لا تقاتل ؟!

– هنا ثارت ثائرتهم، وارتفعت أصواتهم ليؤكدوا على دعواهم: بأنهم أهل القتال والبراز، وأنهم على أتم الجوزية لنزول الجهات، ولم لا وكل دواعي الخروج والقتال متحققة؟ فنساؤنا قد بیت، ورجالنا قد قتلت، وأموالنا وأراضينا قد هبت وشرقت، وقد شردنا وأقصينا وأصبحنا غرباء، فلم لا تقاتل ؟! «قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا».

فلما كتب عليهم القتال

مضت حالة ثوران المشاعر الغابرة، والآمال الكاذبة وأحلام اليقظة، حتى جاء الجد وحسم الأمر فصار القتال مكتوبا عليهم! هنا تزلزلت القلوب وزلت الأقدام وهدأت الأصوات، حتى غابت فلا تسمع إلا همسا، كتب عليهم القتال ولكن لم يجب ألا القليل منهم «فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين»! البقرة ۲4

فأين تلك الحشود الداعية للقتال، وأين تلك الألوف التي ارتفعت أصواتها تدعو للحرب من أجل أن تستعيد حقها وعزتها وكرامتها ؟!

لم تثبت لأنها كانت تعيش الظلم في داخلها! والذي يعيش الظلم والفساد فهو غير قادر على نصرة الحق والوقوف في وجه الطواغيت الظلمة، «والله عليم بالظالمين»..

 فلا يمكن أن ينصر دينه ويعز شعبه وينتصر على طواغیت زمانه، من كان ظالما لنفسه! وما كان الله جل جلاله لينصر دينه بالمبطلين والفاسقين الفاسدين الطغاة، «وما كنت متخذا المضلین عضدا».

القائد طالوت

ولم تتوقف الامتحانات، ولم يبق إلا القليل إلى آخر الطريق! فقد جاء الامتحان تلو الامتحان لتمحيص الصابرين، وتمييز الطيبين من الخبيثين، ومن يثبت ممن ينقلب على عقبيه؛ فهؤلاء طلبوا من نبيهم «قائدا» يقاتلون معه، فقال لهم أن القائد الذي طلبتموه هو طالوت.. «وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملگا» البقرة ۲۶۷

وهنا ارتفعت الأصوات بالاعتراض، بعد أن تحركت النفوس بالأحساد والأحقاد والأضغان، وصاروا يعترضون على هذا القائد المعين من قبل السماء.. «قالوا أتى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه»! وهذا الداء ابتلي به الكثير حيث لا يرضون بقيادة السماء، ويضعون معايير القائد وصفاته، تضعها عقولهم القاصرة وأهوائهم الساقطة «لم يؤت سعة من المال»! وهل عظمة القائد ولياقته وكفاءته لهذا المنصب متوقفة على المال والثروة ؟!

فأجابهم نبيهم: «إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم»، فهو قائد يملك المؤهل المنصب القيادة، العلم والقوة، والأهم أن الله جل جلاله هو الذي اختاره واصطفاه، ومشيئته الله نابعة من حكمته وعلمه، وعلى العباد الطاعة والانقياد، ولا حق لهم في الرد والاعتراض، «والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم».

الابتلاء بالنهر

فاز القلة ونجحوا فيما سبق من امتحان، ولكن ما زالت تنتظرهم اختبارات أخرى، فهل سوف يبقى من هؤلاء القلة؟!  

فقد «خرج القائد» طالوت بجنوده، وهم القلة من بني إسرائيل الذين لم يتولوا عن القتال، بل خرجوا القتال العدو، وكان الجو حارا، فشكوا قلة الماء، فقال لهم القائد طالوت: إن الله ممتحنكم في طاعتكم وإخلاصكم بنهر تصادفونه، فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يذق منه فإنه مني، إلا من اغترف غرفة واحدة بيده «فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده» . البقرة ۲۶۹

فلما وصلوا إلى النهر، ينقسم الجنود إلى ثلاثة أقسام: من شرب منه وهم الأكثرية، ومن اغترف غرفة بيده، ومن لم يذق شيئا من الماء. فلما رأى طالوت ذلك واصل المسير، وترك الذين لم يصبروا على هذا الامتحان، وعبر النهر مع القليل من الجنود الذين اتبعوا أمره.

الابتلاء بمواجهة الأعداء

النهر، ينقسم الجنود إلى ثلاثة أقسام: من شرب منه وهم الأكثرية، ومن اغترف غرفة بيده، ومن

فاز القلة ونجحوا فيما سبق من امتحان، ولكن ما زالت تنتظرهم اختبارات أخرى، فهل سوف يبقى من هؤلاء القلة؟! | هنا وعند مشاهدة الجيوش الجرارة ل

جالوت»، وكمال ما يملكونه من عدة وعتاد، فإنه فئة من جيش طالوت – وهم الذين اغترفوا غرفة من الماء!- قد سقطوا في هذا الامتحان الجديد وتراجعوا قائلين: «لا طاقة النا اليوم بجالوت وجنوده»!

ثبات حزب الله في الجهات

وكثرة جنود الأعداء وما يملكونه من عدة وعتاد، لا تزلزل قلوب أولياء الله وحزبه الذين تعلقت قلوبهم بربهم، ووجهوا أبصارهم إلى سيدهم، وتوكلوا على قوتة ووثقوا بنصره، فثبتوا في المعركة غير معتمدين على أنفسهم و لا على عدتهم، كما أنهم لا ترهبهم كثرة تجهیزات عدوهم، فقد كانوا يعيشون «التوحيد العملي» ولایرون قوة ولاعزة ولانصرا إلا الله وحده…

«قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله» البقرة ۲۶۹. وكان لابد من التوسل بالصبر في مثل هذه المحن والشدائد «والله مع الصابرين».

النصر لأولياء الله

فكان الانتصار لجهة الحق على جبهات الباطل، ولحزب الله على حزب الشيطان،

وهكذا يكون النصر الإلهي، فهو من الله جل جلاله وبإذنه | «فهزموهم بإذن الله» لا من الناس وليس بسبب ما يملكونه

من عدة وعتاد «وما النصر إلا من عند الله».

سنة الله في قمع الظالمين

 وتختم آيات القصة بذکر سنة من سنن الله الجارية على الظالمين، وأنه يقضي – من وقت لآخر – على الظالمين بأيدي جمع من المؤمنين الصابرين، فالله سبحانه لا يسمح للطغاة بأن يتمادوا الحد الذي تملأ الأرض كلها بالفساد والضلال، بحيث تظلم الدنيا فلا يهتدي الناس إلى طريق الرشاد، ولا يصلون إلى الجنة والرضوان.

ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض»

فلابد أن يقوم الصالحون لمحاربة الأشرار والظالمين «ولكن الله ذو فضل على العالمين»، فالله جل جلاله هو المالك العباده، وهو الذي يربيهم ويهديهم، ومن رحمته أن يتصدى للفساد وينصر أولياءه على اعدائه، لتعود المجاري الصافية للحياة، وتنتعش البشرية بتعاليم السماء، فيهنأوا بالدنيا، ويعيشوا الحياة الطبيعية الطيبة، ويفلحوا في الآخرة وينعموا بالجنة الخالدة!

قرآن الطف

ومن القرآن الصامت نستلهم الفهم وكشف الأسرار لما قام به «قران الطف» الإمام الحسين للا*:

فقد كانت الأمة تعيش في ظل تعاليم الإسلام، وتسعد بنعم الله جل جلاله المادية والمعنوي، ألا إن فسدوا وظلموا وانقلبوا على الأعقاب، وزووا الحق في سقيفة الضلال،

وتركوا الإمام الحسن الله حتى تسلط بنو أمية على رقاب المسلمين، وذاق الناس منهم الذلة والهوان، وبعد أن سكتوا عن معاوية وابتلاهم الله بابنه يزيد! وهكذا زادت المحنة واشتدت نوازل النقاء، فقتلوا وبوا وشردوا.

فتصاعدت الأصوات واشتدت الصيحات، وتتالت الكتب والرسائل إلى الإمام الحسين ولي طالبين منه الثورة والقيام، واعدينه بالنصر والثبات، والوقوف معه ضد الظلمة العتاة!

فكان لابد من امتحان الأمة بالامتحان تلو الامتحان.

فكان خروجه من المدينة امتحانا، وتركه وحيدا «سقوطا» منهم في الامتحان!

وعدم العيش في مكة بأمان وخروجه منها – قبل أن يقتل ولو كان متعلقا بأستار الكعبة! – والأمة تراه وهي ساكتة وغير ملبية نداءه «سقوط» منهم في الامتحان!

و خذلان أهل الكوفة لرسوله «مسلم ابن عقيل» حتی أسلموه لابن زیاد يقتله ويطوف بجسده الطرقات «سقوط» منهم في الامتحان! وتركهم الأمام الحسين لله وحيدا يلاقي مصرعه في کربلاء، هو آخر «سقوط» لهم في الامتحان.

لبيك يا حسين

ونقف في المقام معتبرين ومستلهمين من «القرآن الصامت» ومن «القرآن الناطق» كي تتضح لنا مجموعة من الحقائق، فنصرة الحق مع القائد، كل ذلك يحتاج إلى مؤهلات مسبقة

نذكر بعضا منها:

أولا: أن لا نعيش الظلم في داخلنا، فالذي يعيش الظلم في داخله «ظلمت نفسي» لا يقدر على نصرة الحق ودينه «وما كنت متخذ المضلين عضدا»، فنصرة دين الله شرف لا يوفق له إلا من كان يعيش «العقيدة الحقة.» و«الأخلاق الفاضلة»، ويكون ملتزما بأحكام الله جل جلاله في «سلوكه وعمله»

 ثانيا: أن نعد انفسنا لصعوبات الطريق، فطريق ذات الشوكة كله أشواك و امتحانات وابتلاءات الاتتوقف ولا تسكن عواصفها!

وهي متنوعة ومختلفة، قد ينجح المجاهد في بعضها، ويسقط ويهوي في بعضها الآخر؟ فلابد من التجهز لكل أصناف المحن والابتلاءات.

 ثالثا: طاعة القائد المطلقة، فلا ينبغي الاعتراض على القائد المعين من قبل السماء، ولا بد من الثبات معه في أشد المنعطفات، والحذر من إسلامه للأعداء.

وفي زمن الغيبة الكبرى، فإن زعامة الأمة الإسلامية بيد «الولي الفقيه» الذي تكون طاعته كطاعة الرسول والإمام لا وهي طاعة الله جل جلاله.

رابعا: التجهز بالعدة الظاهرية والباطنية، فنصرة دين الله ومحاربة أعداء الله تحتاج للتجهز وإعداد العدة «وأعدوا لهم استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم»، وكما يلزم أخذ القوة الظاهرية، يجب التسلح بالقوة الباطنية من خلال الارتباط بالله جل جلاله، والتوكل عليه، وطلب العون منه، والتماس النصر منه، والاعتماد عليه فقط، ولسان الحال والمقال «ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين» البقرة ۲۵۰ |

خامسا: أن يكون الهدف إلها، فلا ينبغي أن يكون الهدف من الجهاد والقتال هدفا دنيويا، بل لابد من السعي للوصول ل «الأهداف الربانية»، والتي في قمتها وذروتها إقامة «الحكومة الإسلامية»، فعندها نكون مؤيدين من السماء، وتكتب لنا السعادة في الدارين.

• والخاتمة: أن التلبية الحقيقية لنداء سید الشہداء الليلة عندما قال «هل من ناصر ینصرنا» هو تحقيق أهداف ثورته:

. بإقامة الدين ونشر أحكامه وسيادتها بإقامة الحكومة الإسلامية.

• بالوقوف بوجه الطواغيت الظالمين.

• بالوقوف مع المظلومين والمستضعفين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى