ثورة لا ثورة

تمهيد

عندما يكون هناك فساد اجتماعي وظلمٌ في الحكم وفرعونية في إدارة الدولة ونهب مقدرات الأمة بقتل الأبناء والأبرياء وهتك الأعراض واستحياء علينا، وإخراج أهل البلد وتشريدهم في مختلف الأوطان وأفظع من كل ذلك قيامُ إدارةٍ من الزمرة الفاسدة الحاكمة بتغيير أحكام الإسلام وهي تدّعي الإسلام كذباً وزوراً وذلك خلال مخططات شيطانية خبيثة وبنحو تدريجي وهادئ.

عندها لا بدّ من الثورة والقيام وعدم السكوت ولو كان ما كان والإسلام وهو الدين العالمي الخالد، قد علّمنا كيف نقف أمام هكذا فساد والثورة في وجه طغاة الزمان حيث بيّن لنا الإسلام وسائل وأساليب وجعل لنا منهجاً فيه دعوة للإصلاح وتحقيق العدالة وتضييق الظلم ومقاومة الظلام حتى يسعد الناس في دنياهم وفي أخراهم، وهذه الوسائل والأساليب التي طرحها الإسلام تكاد تنحصر في ثلاث وسائل وأساليب:

أولاً: الدعوة والإرشاد بالقول.

ثانياً: المقاومة السلمية.

ثالثاً: الحرب والثورة والقتال.

وهذه المراتب الثلاث مترتبة متدرجة فلا يُذهب للوسيلة الثانية إلا بعد استفراغ الوسع في الوسيلة الأولى، والجزم بعدم جدوائيتها ولا يركن إلى الوسيلة الثالثة إلا بعد اليأس من نفع الوسيلة الثانية.

وعليه فكما أن الإسلام في مقام الإصلاح والدعوة لإقامة العدل يدعو بالقول والإرشاد والموعظة والنصيحة فإن الإسلام يدعو للمقاومة السلمية أيضاً، بل الإسلام يلجأ عندما يخرجه الأعداء والظلام للثورة والجهاد في آخر المطاف فكل ذلك من الإسلام ولا يمكن حصر الإسلام في الوسيلة الأولى أو الثانية فقط، بل من الإسلام الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى ونحن نذكر شيئاً من التفصيل بالنسبة لهذه الوسائل والأساليب الثلاث وهي كالتالي:

 أولاً: الدعوة القولية

إن أول الوسائل والأساليب التي يجب أن يقوم بها دعاة الإصلاح الاجتماعي ومن يسعون لتحقيق العدل هو أن يبدؤوا بالموعظة والقول الحسن وإقامة البراهين على أحقائية مطالبهم وبطلان ما عليه عدوه، يقول تعالى: <ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ>[1].

فهذه الآية تدعو لاستعمال جميع فنون البيان على حساب اختلاف الأفهام واستعداد الأشخاص وهذه هي الطريقة التي استعملها الإسلام في أول البعثة وعليه .. على جميع الدعاة للإصلاح والثائرين على كل ظلم أن يبدؤوا بها ويستفرغوا الوسع لإقامة الحجة على حقانية مطالبهم وحلال ما يقوم به ظالمهم ولكن إذا لم تجدي هذه الوسيلة ولم يحقق هذا الأسلوب الهدف المنشود منه، حيث تغنت الطغاة وتغطرس البغاة وأخذتهم العزة بالظلم والعدوان ولم يفكروا بتغيير ما يقومون به من ظلم ولا مراجعة شيء مما أفسدوه من تدمير البلاد وإذلال العباد وترويع النساء وإيتام الأطفال، فإنه حينئذٍ لا يجوز التوقف عند هذه المرتبة والاكتفاء بهذه الوسيلة بل لا بدّ من الانتقال إلى الأسلوب الثاني وهو المقاومة السلمية.

ثانياً: المقاومة السلمية

وهذه هي الوسيلة الثانية للإصلاح ومقاومة الظلم والفساد حيث القيام بالمظاهرات والإضرابات والمقاطعة الاقتصادية وعدم التعاون مع الظالمين، وعدم الاشتراك في أعمالهم يقول تعالى: <وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ>[2] ويقول تعالى: <لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ>[3].

ففي المقاومة السليمة يوجد اعتزال من قبل المؤمنين وعدم امتزاجهم مع الكافرين والظالمين لا في الدين ولا في الأعمال، فهناك مجتمع إسلامي لا ينبغي له أن يمتزج أو يذوب في المجتمع الكافر والظالم لا بالسلوك والفعل الخارجي، لا في الأخلاقيات والملكات النفسية والروحية، ولا في الأفكار والرؤى الاعتقادية، يقول تعالى: <لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ>[4] وفي القرآن الكريم وكذلك في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام الكثير الدال على التبرأ والاعتزال عن أعداء الدين وعدم الامتزاج بهم أو الذوبان في هويتهم.

ولكن إذا كانت هذه الوسيلة لا تنفع ولا تؤدي الغرض ولا توصل إلى الغاية فعندها لا يجوز الوقوف عندها والاكتفاء بها والإصرار على عدم تجاوزها بل لا بدّ من الذهاب إلى الوسيلة اللاحقة والأسلوب الثالث وهو الجهاد والثورة والقتال.

ثالثاً: الحرب والثورة والقتال

وهذه هي الوسيلة الثالثة والأسلوب الأخير الذي دعا الإسلام من أجله الإصلاح الاجتماعي، ومقاومة الظلم والفساد والإسلام لم يستعمل السيف والصلاح من أجل جبر الناس على دخولهم الإسلام بل الإسلام إيمانٌ وعقيدة، والعقيدة لا تحصل بالجبر ولا بالإكراه وإنما تخضع للحجة والبرهان، فيقول تعالى: <لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ>[5] بل الإسلام لم يشهر سلاحه إلا على الظالمين الذين يقفون حجر عثرة أمام الدعوة الحقة فلا هم يهتدون ولا يسمحون لغيرهم بالاهتداء بل يسعون لإغواء الناس وإغوائهم، فكان الجهاد والقتال من أجل رفع شر المعاندين لا من أجل إدخالهم في الإسلام قال تعالى: <وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ>[6] فالقتال من أجل دفع الفتنة لا من أجل اعتناق الدين والعقيدة، فالإسلام لا يقاتل محبطةً واختياراً وإنما يحرجه الأعداء.

الإسلام وثلاثية الإصلاح

والحاصل أن هذه المراتب الثلاث هي من مزايا الدين الإسلامي ومفاخره والإسلام يتدرج في هذه الأساليب الثلاثة: فأولاً يستعمل الموعظة الحسنة والدعوة القولية فإن لم تنجح في دفع الظالمين وردّ فسادهم واستبدادهم فإنه يلجأ ثانياً للمقاومة السلمية وعدم البقاء وعدم التعاون والمشاركة معه فإن لم تجدي ولم تنفع فإنه يلجأ ثالثاً للثورة المسلحة، فإن الله تعالى لا يرضى بالظلم أبداً بل الراضي والساكت شريك للظالم[7].

الإعراض عن منهجية الإسلام

إن المنهج الوحيد الكفيل بإسعاد البشرية هو الدين الإسلامي، فإذا طبق في كل مناحي الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية فإن البشرية سوف تهنأ في عيشها وتفوز بآخرتها وأي إعراض عن منهج الإسلام فذلك موجب للضياع والتيه والضنك في الحياة فضلاً عن الخسران بعد الممات، قال تعالى: <وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً>[8].

ومن الإعراض عن الإسلام وعدم العمل بمنهجيته أو منهجيته في مقاومة الطغاة ومناجزة البغاة، حيث يكتفي الكثير في معارضتهم للأنظمة الفاسدة بالأسلوب الأول، وقد يتقدمون بخطوات خجولة ويمارسون الأسلوب الثاني «المقاومة السلمية».

وأما عن المرتبة الثالثة، أي المقاومة المسلحة والجهاد وهو مرفوض عندهم أشد وكأنه ليس من الإسلام في شيء فإذا كان الإسلام يدعو للجهاد وشهر السلاح في وجه هؤلاء الطغاة الذين لم يجدي معهم نصح أو موعظة، ولم تنفع معهم المقاومة والمقاطعة السلمية فلما الاعتراض إذا كان المرء يعد نفسه معارضاً إسلامياً وأنه يتقيد بأحكام الإسلام فهل الجهاد بدعة أدخلت في الإسلام أو أن الجهاد لم يمارس من قبل رسول الإسلام؟ص؟ وأمير المؤمنين؟ع؟ أم أن لهم دينهم ولكن دين.

وجع لواقع المعارضة والمعارضين

وهكذا نجد الظلم يسود ويحكم والظُلام يعيثون في الأرض فساداً وطغياناً ولا يتوجسون رهبة ولا خوفاً ما داموا على يقين أن المعارضة لن تقوم بوجههم ولن تشهر السلاح ولن تعلن الجهاد ضد تجبرهم، وكأنّ لسان حال الطغاة لكل من يعارضهم أن أصرخوا ونددوا واعترضوا وليرتفع صياحكم حتى تبح أصواتكم فأنتم أصحاب حق في ذلك، ولن نكمّ أفواهكم ولن نسجن معارضيكم ما دمتم بعيدين عن الجهاد والقتال وشهر السلاح، وهكذا يتربى أناس على معارضة شرطها عدم الاصطدام مع الظالم وعدم التعرض لبطشه وشدة قسوته، معارضة شرطها أن لا تقتل وأن لا تسجن ولا تهجر و…، وماذا بعد هكذا معارضة إلا الاستسلام لكل مشاريع الظلام والرضوخ لكل ما عليه بغاة الزمان، هنيئاً للشعوب لمثل هكذا معارضة إذا قدمتها وسارت خلفها كي تحقق مطالبها!!

فالمعارض الذي لا يعد نفسه للسجن أو التهجير بل وإلى القتل وهو يعلم أنه في وجهه نظام ظالم لا يعرف لغة العقل ولا الدين ولا يملك المشاعر الإنسانية فالأولى له أن يجلس في بيته ولا يؤذي شعبه حتى لا ينسحب من وسط الطريق ليجعل القافلة تائهة لا تهتدي إلى سبيل.

ثورة البيانات

وقد تصل المعارضة التي ترفض منهج الإسلام في مقارعة طغاة الزمان إلى طريقٍ مسدود وحلقة مفرغة وتعود للمربع الأول حيث الثورة والقيام على صعيد الكلام.

وإذا كان الإسلام يدعو للتدرج بالموعظة أولاً والمقاومة السلمية ثانياً والجهاد والثورة والقتال ثالثاً فما بال هؤلاء المعارضين وبعد تيقنهم بأن الوسيلة الأولى لا تجدي نفعاً ولا ترد حقاً فلما لا يذهبون للخطوة الثانية فإذا لم تنفع أيضاً توجهوا بأنفسهم وشعوبهم للخطوة الثالثة، فلنجد الواقع المرير فإن يصرّوا على الخطوة الأولى ولا يفارقونها أبداً، ولو سقط الشهداء وهُجّر الأبناء عن الأوطان وهتكت الحرمات بل وغيّر دينُ الله تعالى في وضح النهار فهل الإسلام لا يرضى بالجهاد والثورة والقتال أو لأن أبناء الإسلام لم يتربوا على مثل هكذا خيار الذي يكلف الكثير الكثير من التضحيات وفراق هذه الدنيا وما فيها من الزخارف والحطام.

فلسطين بين ثورة وثورة

ولنا في فلسطين عبرة إن أردنا الاعتبار فماذا قدمت لنا الاستنكارات والتهديدات وثورة البيانات التي استمرت لأكثر من 70 عاماً، هل استردت حقاً أو أرجعت أرضاً أو حررت أسيراً أو أعادت فتنة أم أن الشيء الوحيد الذي يؤمل عليه في أرض فلسطين الجريحة هو قيام فئة من أبناء الجهاد والمقاومة قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم ودكوا عدوهم بالصواريخ في عقر دارهم حتى جعلوا تل أبيب مدينة يعيشها الفئران تحت الأرض كما حصل أخيراً في معركة «سيف القدس» حيث لم تنفعهم قبتهم الحديدية ولا وقوف العالم معهم والاصطفاف خلفهم.

والبحرين تختار أيّ ثورة

وبعد عشرة أعوام من الثورة والقيام وتقديم الأضاحي ونزف الجراحات، هل نرجع إلى ثورة البيانات؟! كي نرجع حقاً قد سلب لأكثر من قرنين من الزمان ألم يتضح الحقّ للكل؟! ومعرفة الظالم من المظلوم وعلم حق الشعب المسلوب وتبيّن إصرار الظالم على عتوه وتجبره.

فماذا نرجو من مثل هكذا بيانات وصرخات، يقول الإمام علي؟ع؟: «لَنَا حَقٌّ، فَإِنْ أُعْطِينَاهُ، وَإِلاَّ رَكِبْنَا أَعْجَازَ الْإِبِلِ، وَإِنْ طَالَ السُّرَى» نهج البلاغة ـ الحكمة 17.

فلا رجعة للوراء ولا قبول لثورة الكلمات بل لا بدّ من ثورة تركع الأقزام كما أركع أسيادهم الأمريكان في سوريا والعراق ولبنان، ومن قبل ذلك إذلالهم في إيران.

فالدين يقول والعقل يقول والتجربة تقول أن الحق لا يسترجع من أمثال هؤلاء الطغاة إلا بالسيوف والنزول للميدان ومناجزة طغاة الزمان، فماذا بعد الحق إلا الضلال المبين، فعلى أبناء هذا الشعب قيادة وشعباً أن يحسموا أمرهم ويتوكلوا على ربهم ولا ينتهجوا غير الإسلام ديناً ولا يبتغون غيره منهجاً والإسلام يدعوا لأن نقاوم ونثور ونحمل السلام فلا استرجاع للحقوق ولا عزة في الأوطان ولا حكم للدين إلا لذلك.

فاجعلنا يا الله ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري ..

البحرين وإسلامية النظام

وما دام هذا الشعب متمسكاً بهويته الإسلامية مصراً على حفظ دينه غير مستسلمٍ لمن ظلمه فعليه أن يتربى على الإسلام في كل خياراته، ومنها خيار القتال والجهاد واسترخاص النفوس من أجل دين الله تعالى ومن أجل العزة والكرامة «وحجور طابت وطهره ونفوس أبيه وأنوس حمية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» والحذر كل الحذر من الانغماس في ماء الدنيا، ومن الانكباب على جيفتها النتنة التي تحيطها الكلاب العاوية، واللازم تقوية العلاقة مع الله تعالى والهجرة عن الدنيا بالعروج والسفر للآخرة بالقلوب والأرواح، قال تعالى: <وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ>[9].

ومن هجر الدنيا وطيباتها وزهد في حطامها ولم يستسغ لذاتها وأنف بالآخرة واللقاء لرب الأرباب ومجاورة أوليائه في الجنان فإن هذه الدنيا وما فيها وما عليها لن تكون عائقاً للثورة على الطغاة ولو هددوا بالقتل والسجن والتشريد عن الأوطان.

شكرٌ مقاوم وتربية ثورية

فلا بدّ من نشر الفكر المقاوم وتوعية الأمة تجاهه مضافاً إلى تربيتها على هذا الخيار خيار المقاومة والثورة، فالأمة تحتاج إلى من يربيها على هذا المنهج الثوري المقاوم من قبل النخب وفي مقدمتهم العلماء فلتلتحق قافلة هذا الشعب قافلة أمة.

حزب الله التي تسطر أروع الملاحم والبطولات في سوح النزال حيث كانت حرب الدفاع المقدس أم الثورة مربية الأمة لكل نضال ومنه انفجر بركات الثورة في جنوب حزب الله، وفي العراق بالكتائب والعصائب والنجباء وغيرها، وفي اليمن بأنصار الله، فلا بدّ أن يلتفت هذا الشعب لهذه المقاومات لنصرة دين الله تعالى واستنقاذ الناس من كل ذلك وضيم وضياع في الأوطان، وكما يقول الإمام علي؟ع؟: «روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء .. فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين» نهج البلاغة خطبة (51).

تحميل المحاضرة PDF


المصادر والمراجع

  • [1] النحل: 125
  • [2] هود: 113
  • [3] المائدة: 51
  • [4] الكافرون: 6
  • [5] البقرة: 256
  • [6] البقرة: 193
  • [7] مأخوذ من العلامة الطباطبائي ومن الشيخ كاشف الغطاء ـ لاحظ الميزان ج4، من صفحة 160 إلى 171.
  • [8] طه: 124
  • [9] النساء: 100

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى