مسجد ضرار
الاسم والمحتوى
رمزٌ لكل مشروع نفاقي ظاهره إيمان وباطنه كفر وإلحاد، فالاسم مسجدٌ يُعبد الله فيه، والمحتوى مسرحٌ للأهواء وعبادة الذات والشيطان، والهدف المعلن هو هداية الناس والأخذ بأيديهم إلى بر الأمان والفوز بالجنة والقرب من الله، وأمّا الهدف المخفي فهو هدم الإسلام ومحاربة الناس والأخذ بهم للنار والدخول تحت ولاية الشيطان.
قبا وضرار: هدايةٌ وضلال
هناك مسجدان، قبا وضرار، هدايةٌ وضلال، صدقٌ وكذب، تقوى ونفاق، وهناك مؤسسات لكل من المسجدين، وهناك الجمهور التابع، وهكذا يكون الاصطفاف هنا وهناك، لا بين الإسلام والكفر، بل بين الإيمان والنفاق، وهو أصعب اصطفاف حيث يصعب على الكثيرين التفريق بين مسجد قبا ومسجد ضرار، وأصعب منه أن يُفرّق بين المؤسسين؛ فكل منهم أو منها ظاهره الإيمان والصالح، ومما يزيد المعاناة والامتحان، كثرة روّاد مسجد ضرار وقلّة المصلّين في مسجد قبا، كما هو ملاحظٌ في مختلف الأزمان.
من المسجد للعمامة
انطلقنا من المسجدين قبا وضرار، لننتقل إلى غيرهما، فهنا عمامة وهناك عمامة، وهنا جمعية وحزب وتيار وهناك جمعية وحزب تيار، فالظاهر واحد والشكل متطابق والأهداف متقاربة، ولكن بينها بُعد المشرقين، نعم، بُعد ضرار وقبا، والناس في حيرةٍ وذهولٍ وتيهٍ عن معرفة الحق من الباطل والهدى من الضلال.
التمييز بين المسجدين
الواجب على الناس أن يميزوا بين الأمرين، ولا ينبغي أن يعيشوا مكتفين بالظواهر والقشور والانخداع بألاعيب المنافقين وأصحاب المطامع وطلاب الدنيا، وإلا فإنّ المتضرر في آخر المطاف هم أنفسهم ولات حين مناص، فكم من علي أُزوي في بيته بعد سقيفة الضلال؟ وكم من حسين ذُبح والناس تصفق لعبيد الله بن زياد؟ وكم صار انقلابٌ على الأعقاب!
البنيان: التقوى أم الفساد؟
إنّ الأساس الذي يقوم عليه البناء هو أهم شيء في كل مشروع ، قوله تعالى: <أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ>[1]، فإذا كان الأساس يبتني على العقيدة الحقة والأخلاق الفاضلة فإنه سيكون عملاً مباركاً، أما إذا كان الأساس هو حب الدنيا واللهث وراء المنصب والجاه والمحسوبيات ومحورية الأنا والذات، فمهما ارتفع البناء فإنه سيسقط السقوط المدوّي الذي يدمّر البلاد والعباد ويفسد دنيا الناس وآخرتهم.
النية الخالصة والشرك الخفي
إنّ هذا النزاع بين المأتم والمأتم، كل ذلك يرجع إلى انحرافٍ في النية وعدم وجود الخلوص ودخول الأهواء والشرك الخفي في العمل، وهذا لا حلّ له إلّا:
أولاً: تربية أفراد مؤمنين مخلصين يحملون الأهداف الربانية والهموم الرسالية ويسعون لتحقيق ما يصلح دنيا الناس وآخرتهم.
ثانياً: لا بدّ من إبعاد أمثال هؤلاء الذين لا يصلح معهم وعظ ولا إرشاد ولا يكفّون عن زرع الفتن وإيجاد القلاقل والشقاق بين الصف الإيماني.
استقامة الأفراد والأفكار
إنّ الذين يسعون لإقامة عملِ إيماني، عليهم أن يكونوا دقيقين على صعيد الأفكار والرؤى التي يحملونها، والأفراد الذين يحملون المشروع؛ حيث لا بدّ أن يتسلحوا بالفكر الصائب ويلتبسوا بالأخلاق الفاضلة والسلوكيات الإيمانية، والحذر من المجازفة بالدخول في مشاريع غير واضحة الرؤى فضلاً عن كونها منحرفة أو هشّة أو العمل مع منحرفين غير متدينين.
علماء ضرار .. وعاظ السلاطين
علماء ضرار .. أعظم ما يزلزل أركان المجتمع ويهدُّ من قواعده ويشعل الفتن بين القلوب؛ فإذا فسد العالِم أخلاقياً وانحرف فكرياً وكان لاهثاً وراء الدنيا لا يرى دونها بديلاً، فإنّ أول ضحيةٍ هو الدين حيث يكون مسرحاً لأهوائه ونزواته، والضحية الثانية الناس حيث يغرّهم بظاهر تدينه ويقتلهم بسم خبثه وانحطاطه، فشريح القاضي في كل زمان ووعاظ السلاطين لا يخلو منهم مكان، وعلى الإسلام السلام إذا لم يتم اجتثاث أمثال هؤلاء العلماء ورميهم في مزابل التاريخ.
عن الأمير(ع): «هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا وَمُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَبِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ أَلَا لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَ الِادِّخَارِ لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ».[2]
وظيفة الناس اتجاه العلماء
لا يحق للناس أن يُعرضا عن كل العلماء بحجة وجود علماء ضرار؛ وذلك لوجود علماء صلحاء ووجود مسجد قبا، بل الواجب على الناس أن تقوّي مثل هؤلاء العلماء الصالحين وتقف معهم وتساندهم وتفضح أولئك العلماء الفاسدين، خصوصاً حال الاختلاف والنزاع بين الصنفين من العلماء، وهل يصح الوقوف على التل والتفرج على الصراع بين جبهتي الحق والباطل بحجة أن هؤلاء علماء وأولئك أيضاً علماء، مع وضوح الصالح منهم والفاسد؟!
وهل هذا إلا إعطاء العذر للذين لم يقفوا مع الإمام علي ولم يصطفوا مع معاوية لعنه الله، وبقوا متفرجين لا مع هذا ولا ذاك! فالحياد لا معنى له مع وضوح الصفوف والمصطفين.
عن الأمير(ع): «اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولَئِكَ وَاللَّهِ الْأَقَلُّونَ عَدَداً وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْراً يَحْفَظُ اللَّهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ وَبَاشَرُوا رَوْحَ الْيَقِينِ وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ وَأُنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ آهْ آهْ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ».[3]
لا بد من الحزم
أنه لا بد من الحسم وعدم المهادنة والمداهنة مع أي ضرار، سواءً كان مسجداً أو مأتماً أو عالماً أو حزباً سياسياً أو غيرهم؛ لأنه سوف تأتي الويلات على الأمة في حال تم غض الطرف عن هذه الوجودات الخطرة، والعلاج إذا كان من البداية ومن الجذور والأساس أفضل وأنفع من العلاج لاحقاً، ولعله قد يفوت الأوان ولا يكون هناك علاج! ومع عدم إمكان علاجهم – كما يحصل كثيراً – فلا بد من تحذير الناس من الاقتراب منهم وعدم الاغترار بمظاهرهم الكاذبة الخادعة، فالوباء الذي لا تقدر على علاجه ينبغي تحذير الناس منه ومن الاقتراب منه.
عن الأمير(ع): «إِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي».[4]
وضوحٌ وحزم
إننا لا بد أن نكون واضحين وحازمين، وضوح بأن هناك من لا يمكن أن ينصلح أبداً؛ فهو كتب على نفسه أنه لن يغيّر حاله الفاسد ووضعه المنحرف، وعليه: فلا بدّ من الحزم في التعامل مع هؤلاء وعدم اللين معهم مع فرض كونهم منبع كل شر وأساس كل فساد وسبب كل شرخ في المجتمع ونزاع بين الناس، ولا ينبغي أن نكون بسطاء بتصوّر أن الكل يمكن أن ينصلح فكرياً وأخلاقياً وسلوكياً، فهذا خلاف الواقع، والتجارب تشهد بخلافه، ولا ينبغي أن نكون ضعاف ليبيّن في التعامل مع هؤلاء؛ لأنه سببٌ لانتشار المرض في كل أوصال المجتمع، فإذا اتضح أن هناك ورمٌ في عضو فلا بدّ من استئصاله وعدم الرأفة معه، فالقسوة مع الورم والعنصر المفسد هو رحمة لكل أعضاء البدن، فهل نضحي بكل البدن من أجل إصبع فاسدة؟!
التدرج في الإجراءات
نعم، لا نصل إلى الحالات الحازمة واتخاذ الإجراءات القاطعة إلا مع اليأس من كل الحلول اللينة والمحاولات المتكررة والناعمة، فلا ينبغي الشدة في أوائل الطريق ولا الإسراع في الخطوات من بداية العلاج؛ لأن الأمور قد تنصلح من خلال الموعظة والنصيحة والشدة الخفيفة، فتكفينا المؤونة من الذهاب للعمليات الجراحية التي قد تسبب مضاعفات خطيرة، فينبغي الدقة في التشخيص، تشخيص الداء والدواء وطريقة العلاج وانتخاب أفضل الوسائل والخطوات.
[1] التوبة: 109
[2] نهج البلاغة، الحكمة: 147
[3] نفس المصدر
[4] نهج البلاغة، خطبة: 93